فصل: تفسير الآية رقم (128)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***


الجزء السادس

تفسير الآية رقم ‏[‏121‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ ‏{‏وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏، وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، كَيْدُ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ مِنَ الْيَهُودِ شَيْئًا، وَلَكِنَّ اللَّهَ يَنْصُرُكُمْ عَلَيْهِمْ إِنْ صَبَرْتُمْ عَلَى طَاعَتِي وَاتِّبَاعِ أَمْرِ رَسُولِي، كَمَا نَصَرَتْكُمْ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ‏.‏ وَإِنْ أَنْتُمْ خَالَفْتُمْ، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، أَمْرِي وَلَمْ تَصْبِرُوا عَلَى مَا كَلَّفْتُكُمْ مِنْ فَرَائِضِي، وَلَمْ تَتَّقُوا مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ وَخَالَفْتُمْ أَمْرِي وَأَمْرَ رَسُولِي، فَإِنَّهُ نَازِلٌ بِكُمْ مَا نَـزَلَ بِكُمْ بِأُحُدٍ، وَاذْكُرُوا ذَلِكَ الْيَوْمَ، إِذْ غَدَا نَبِيُّكُمْ يُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ‏.‏

فَتَرَكَ ذِكْرَ الْخَبَرِ عَنْ أَمْرِ الْقَوْمِ إِنْ لَمْ يَصْبِرُوا عَلَى أَمْرِ رَبِّهِمْ وَلَمْ يَتَّقُوهُ، اكْتِفَاءً بِدَلَالَةِ مَا ظَهَرَ مِنَ الْكَلَامِ عَلَى مَعْنَاهُ، إِذْ ذَكَرَ مَا هُوَ فَاعِلٌ بِهِمْ مِنْ صَرْفِ كَيْدِ أَعْدَائِهِمْ عَنْهُمْ إِنَّ صَبَرُوا عَلَى أَمْرِهِ وَاتَّقَوْا مَحَارِمَهُ، وَتَعْقِيبِهِ ذَلِكَ بِتَذْكِيرِهِمْ مَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ الْبَلَاءِ بِأُحُدٍ، إِذْ خَالَفَ بَعْضُهُمْ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَنَازَعُوا الرَّأْي بَيْنَهُمْ‏.‏

وَأَخْرَجَ الْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ‏}‏، عَلَى وَجْهِ الْخِطَابِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمُرَادُ بِمَعْنَاهُ‏:‏ الَّذِينَ نَهَاهُمْ أَنْ يَتَّخِذُوا الْكُفَّارَ مِنَ الْيَهُودِ بِطَانَةً مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ‏.‏ فَقَدْ بَيَّنَ إِذًا أَنَّ قَوْلَهُ‏:‏ ‏(‏وَإِذْ‏)‏، إِنَّمَا جَرَّهَا فِي مَعْنَى الْكَلَامِ عَلَى مَا قَدْ بَيَّنَتُ وَأَوْضَحَتُ‏.‏

وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْيَوْمِ الَّذِي عَنَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ‏}‏‏.‏

فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ عَنَى بِذَلِكَ يَوْمَ أُحِدٍ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏(‏وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ‏)‏، قَالَ‏:‏ مَشَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ عَلَى رِجْلَيْهِ يُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ‏}‏، ذَلِكَ يَوْمَ أُحُدٍ، غَدًا نَبِيُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِهِ إِلَى أُحُدٍ يُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ‏.‏

حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ‏}‏، فَغَدَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِهِ إِلَى أُحُدٍ يُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ‏}‏، فَهُوَ يَوْمُ أُحُدٍ‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏{‏وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏، قَالَ‏:‏ هَذَا يَوْمَ أُحُدٍ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ‏:‏ مِمَّا نَـزَلَ فِي يَوْمِ أُحُدٍ‏:‏ ‏{‏وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏‏.‏ وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ عَنَى بِذَلِكَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ الْقَزَّازُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبَّادٌ، عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ‏}‏، قَالَ‏:‏ يَعْنِي مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، غَدَا يُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ يَوْمَ الْأَحْزَابِ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَأَوْلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ بِالصَّوَابِ قَوْلُ مَنْ قَالَ‏:‏ ‏(‏عَنَى بِذَلِكَ يَوْمَ أُحُدٍ‏)‏‏.‏ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ فِي الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَهَا‏:‏ ‏{‏إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا‏}‏، وَلَا خِلَافَ بَيْنِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ أَنَّهُ عَنَى بِالطَّائِفَتَيْنِ‏:‏ بَنُو سَلَمَةَ وَبَنُو حَارِثَةَ، وَلَا خِلَافَ بَيْنِ أَهْلِ السَّيْرِ وَالْمَعْرِفَةِ بِمَغَازِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ مِنْ أَمْرِهِمَا إِنَّمَا كَانَ يَوْمَ أُحُدٍ، دُونَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ‏.‏ فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ‏:‏ وَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا رَاحَ إِلَى أُحُدٍ مِنْ أَهْلِهِ لِلْقِتَالِ يَوْمَ الْجُمْعَةِ بَعْدَ مَا صَلَّى الْجُمْعَةَ فِي أَهْلِهِ بِالْمَدِينَةِ بِالنَّاسِ، كَالَّذِي حَدَّثَكُمْ‏:‏ ابْنُ حُمَيدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ عُبَيدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شِهَابٍ الزَّهْرِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ حَبَّانِ، وَعَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، وَالْحَصِينُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَمْرٍو بْنِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، وَغَيْرُهُمْ مِنْ عُلَمَائِنَا‏:‏ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَاحَ حِينَ صَلَّى الْجُمْعَةَ إِلَى أُحُدٍ، دَخَلَ فَلَبِسَ لَأْمَتَهُ، وَذَلِكَ يَوْمُ الْجُمْعَةِ حِينَ فَرَغَ مِنَ الصَّلَاةِ، وَقَدْ مَاتَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْهِمْ وَقَالَ‏:‏ ‏(‏مَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ إِذَا لَبِسَ لَأْمَتَهُ أَنْ يَضَعَهَا حَتَّى يُقَاتِل‏)‏‏.‏

قِيلَ‏:‏ إِنِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ كَانَ خُرُوجُهُ لِلْقَوْمِ كَانَ رَوَاحًا، فَلَمْ يَكُنْ تَبْوِئَتَهُ لِلْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَهُمْ لِلْقِتَالِ عِنْدَ خُرُوجِهِ، بَلْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ خُرُوجِهِ لِقِتَالِ عَدُوِّهِ‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ نَـزَلُوا مَنْـزِلَهَمْ مِنْ أُحُدٍ-فِيمَا بَلَغْنَا- يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ، فَأَقَامُوا بِهِ ذَلِكَ الْيَوْمَ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ وَيَوْمَ الْجُمْعَةِ، حَتَّى رَاحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْجُمْعَةِ، بَعْدَ مَا صَلَّى بِأَصْحَابِهِ الْجُمْعَةَ، فَأَصْبَحَ بِالشِّعْبِ مِنْ أُحُدٍ يَوْمَ السَّبْتِ لِلنِّصْفِ مِنْ شَوَّالٍ‏.‏

حَدَّثَنَا بِذَلِكَ ابْنُ حُمَيدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ الزَّهْرِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنُ حَبَّانِ، وَعَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، وَالْحَصِينُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَغَيْرُهُمْ‏.‏

فَإِنْ قَالَ‏:‏ وَكَيْفَ كَانَتْ تَبْوِئَتُهُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ غُدُوًّا قَبْلَ خُرُوجِهِ، وَقَدْ عَلِمَتْ أَنَّ ‏(‏التَّبْوِئَةَ‏)‏، اتِّخَاذُ الْمَوْضِعِ‏.‏

قِيلَ‏:‏ كَانَتْ تَبْوِئَتُهُ إِيَّاهُمْ ذَلِكَ قَبْلَ مُنَاهِضَةِ عَدْوِهِ، عِنْدَ مَشُورَتِهِ عَلَى أَصْحَابِهِ بِالرَّأْي الَّذِي رَآهُ لَهُمْ، بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سَمِعَ بِنِـزِولِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ قُرَيْشٍ وَأَتْبَاعِهَا أُحُدًا قَالَ فِيمَا‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّيِّ لِأَصْحَابِهِ‏:‏ ‏(‏أَشِيرُوا عَلَيَّ مَا أَصْنَعُ‏؟‏ “ فَقَالُوا‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، اخْرُجْ إِلَى هَذِهِ الْأَكْلُبِ‏!‏ فَقَالَتِ الْأَنْصَارُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا غَلَبَنَا عَدُوًّ لَنَا أَتَانَا فِي دِيَارِنَا، فَكَيْفَ وَأَنْتِ فِينَا‏!‏‏!‏ فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ، وَلَمْ يَدْعُهُ قَطُّ قَبْلَهَا، فَاسْتَشَارَهُ، فَقَالَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، اخْرُجْ بِنَا إِلَى هَذِهِ الْأَكْلُبِ‏!‏ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْجِبُهُ أَنْ يَدْخُلُوا عَلَيْهِ الْمَدِينَةَ فَيُقَاتِلُوا فِي الْأَزِقَّةِ، فَأَتَاهُ النُّعْمَانُ بْنُ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيُّ فَقَالَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا تَحْرِمَنِي الْجَنَّةَ، فَوَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَأَدْخَلْنَ الْجَنَّةَ‏!‏ فَقَالَ لَهُ‏:‏ بِمَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ بِأَنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنِّي لَا أَفِرُّ مِنَ الزَّحْفِ‏!‏ قَالَ‏:‏ صَدَقْتَ‏.‏ فَقُتِلَ يَوْمَئِذٍ‏.‏ ثُمَّ إِنْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا بِدِرْعِهِ فَلَبِسَهَا، فَلَمَّا رَأَوْهُ وَقَدْ لَبِسَ السِّلَاحَ، نَدِمُوا وَقَالُوا‏:‏ بِئْسَمَا صَنَعْنَا، نُشِيرُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْوَحْيُ يَأْتِيهِ‏!‏‏!‏ فَقَامُوا وَاعْتَذَرُوا إِلَيْهِ، وَقَالُوا‏:‏ اصْنَعْ مَا رَأَيْتَ‏.‏ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ لَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ أَنْ يَلْبَسَ لَأْمَتَهُ فَيَضَعُهَا حَتَّى يُقَاتِل‏)‏‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ الزَّهْرِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ حَبَّانِ، وَعَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، وَالْحَصِينُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ وَغَيْرُهُمْ مِنْ عُلَمَائِنَا، قَالُوا‏:‏ لَمَّا سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ بِالْمُشْرِكِينَ قَدْ نَـزَلُوا مَنْـزَلَهُمْ مِنْ أُحُدٍ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏(‏إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ بَقَرًا فَأَوَّلْتُهَا خَيْرًا، وَرَأَيْتُ فِي ذُبَابِ سَيْفِي ثَلْمًا، وَرَأَيْتُ أَنِّي أَدْخَلْتُ يَدِي فِي دِرْعٍ حَصِينَةٍ، فَأَوَّلَتْهَا الْمَدِينَةَ، فَإِنْ رَأَيْتُمْ أَنْ تُقِيمُوا بِالْمَدِينَةِ وَتَدْعُوَهُمْ حَيْثُ نَـزَلُوا، فَإِنْ أَقَامُوا أَقَامُوا بَشَرِّ مُقَامٍ، وَإِنْ هُمْ دَخَلُوا عَلَيْنَا قَاتَلْنَاهُمْ فِيهَا‏)‏‏.‏ وَكَانَ رَأْيُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ مَعَ رَأْيِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَرَى رَأْيَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ‏:‏ أَنْ لَا يَخْرُجَ إِلَيْهِمْ‏.‏ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكْرَهُ الْخُرُوجَ مِنْ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ رِجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِمَّنْ أَكْرَمَ اللَّهُ بِالشَّهَادَةِ يَوْمَ أُحُدٍ، وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ كَانَ فَاتَهُ بَدْرٌ وَحَضَرُوهُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، اخْرُجْ بِنَا إِلَى أَعْدَائِنَا، لَا يَرَوْنَ أَنَّا جَبُنَّا عَنْهُمْ وَضَعُفْنَا‏!‏ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَقِمْ بِالْمَدِينَةِ لَا تَخْرُجُ إِلَيْهِمْ، فَوَاللَّهِ مَا خَرَجْنَا مِنْهَا إِلَى عَدُوٍ لَنَا قَطُّ إِلَّا أَصَابَ مِنَّا، وَلَا دَخَلَهَا عَلَيْنَا قَطُّ إِلَّا أَصَبْنَا مِنْهُ، فَدَعْهُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنْ أَقَامُوا أَقَامُوا بِشَرِّ مَحْبِسٍ، وَإِنْ دَخَلُوا قَاتَلَهُمُ الرِّجَالُ فِي وُجُوهِهِمْ، وَرَمَاهُمُ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ بِالْحِجَارَةِ مِنْ فَوْقِهِمْ، وَإِنْ رَجَعُوا رَجَعُوا خَائِبِينَ كَمَا جَاؤُوا‏.‏ فَلَمْ يَزَلِ النَّاسُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الَّذِينَ كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ حُبُّ لِقَاءِ الْقَوْمِ، حَتَّى دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَبِسَ لَأْمَتَهُ‏.‏

فَكَانَتْ تَبْوِئَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ، مَا ذَكَرْنَا مِنْ مَشُورَتِهِ عَلَى أَصْحَابِهِ بِالرَّأْيِ الَّذِي ذَكَرْنَا، عَلَى مَا وَصَفَهُ الَّذِينَ حَكَيْنَا قَوْلَهُمْ‏.‏

يُقَالُ مِنْهُ‏:‏ ‏(‏بَوَّأَتُ الْقَوْمَ مَنْـزِلًا وَبَوَّأَتْهُ لَهُمْ، فَأَنَا أُبَوِّئُهُمُ الْمَنْـزِلَ تَبْوِئَةً، وَأُبَوِّئُ لَهُمْ مَنْـزِلًا تَبْوِئَةً‏)‏‏.‏

وَقَدْ ذَكَرَ أَنَّ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ‏:‏ ‏{‏وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ‏}‏، وَذَلِكَ جَائِزٌ، كَمَا يُقَالُ‏:‏ ‏(‏رَدِفَكَ وَرَدِفَ لَكَ‏)‏، وَ“نَقَدَتُ لَهَا صَدَاقَهَا وَنَقَدْتُهَا‏)‏، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ‏:‏

أَسْـتَغْفِرُ اللَّهَ ذَنْبًـا لَسْـتُ مُحْصِيَـهُ *** رَبَّ الْعِبَـادِ إِلَيْـهِ الْوَجْـهُ وَالْعَمَـلُ

وَالْكَلَامُ‏:‏ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِذَنْبٍ‏.‏ وَقَدْ حُكِيَ عَنِ الْعَرَبِ سَمَاعًا‏:‏ ‏(‏أَبَأَتُ الْقَوْمَ مَنْـزِلًا فَأَنَا أُبِيئُهُمْ إِبَاءَةً‏)‏، وَيُقَالُ مِنْهُ‏:‏ ‏(‏أَبَأَتُ الْإِبِلَ‏)‏‏.‏ إِذَا رَدَدْتَهَا إِلَى الْمَبَاءَةِ‏.‏ وَ‏(‏الْمَبَاءَةُ‏)‏، الْمُرَاحُ الَّذِي تَبِيتُ فِيهِ‏.‏

‏(‏وَالْمَقَاعِدُ‏)‏ جَمْعُ ‏(‏مَقْعَدٍ‏)‏، وَهُوَ الْمَجْلِسُ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ‏:‏ وَاذْكُرْ إِذْ غَدَوْتَ، يَا مُحَمَّدُ، مِنْ أَهْلِكَ تَتَّخِذُ لِلْمُؤْمِنِينَ مُعَسْكَرًا وَمَوْضِعًا لِقِتَالٍ عَدُوِّهِمْ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ‏)‏، يَعْنِي بِذَلِكَ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ ‏(‏وَاللَّهُ سَمِيعٌ‏)‏، لِمَا يَقُولُ الْمُؤْمِنُونَ لَكَ فِيمَا شَاوَرَتْهُمْ فِيهِ، مِنْ مَوْضِعِ لِقَائِكَ وَلِقَائِهِمْ عَدُوِّكَ وَعَدُوِّهِمْ، مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ‏:‏ ‏(‏اخْرُجْ بِنَا إِلَيْهِمْ حَتَّى نَلْقَاهُمْ خَارِجَ الْمَدِينَةِ‏)‏، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ لَكَ‏:‏ ‏(‏لَا تَخْرُجُ إِلَيْهِمْ وَأَقِمْ بِالْمَدِينَةِ حَتَّى يُدْخِلُوهَا عَلَيْنَا‏)‏، عَلَى مَا قَدْ بَيَّنَّا قَبْلُ- وَلِمَا تُشِيرُ بِهِ عَلَيْهِمْ أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ “عَلِيمٌ “ بِأَصْلَحِ تِلْكَ الْآرَاءِ لَكَ وَلَهُمْ، وَبِمَا تُخْفِيهِ صُدُورُ الْمُشِيرِينَ عَلَيْكَ بِالْخُرُوجِ إِلَى عَدْوِكَ، وَصُدُورُ الْمُشِيرِينَ عَلَيْكَ بِالْمُقَامِ فِي الْمَدِينَةِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِكَ وَأُمُورِهِمْ، كَمَا‏:‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ‏)‏، أَيْ‏:‏ سَمِيعٌ لِمَا يَقُولُونَ، عَلِيمٌ بِمَا يُخْفُونَ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏122‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ ‏{‏إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، حِينَ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا‏.‏

وَالطَّائِفَتَانِ اللَّتَانِ هَمَّتَا بِالْفَشَلِ، ذَكَرَ لَنَا أَنَّهُمْ بَنُو سَلِمَةَ وَبَنُو حَارِثَةَ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏{‏إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا‏}‏، قَالَ‏:‏ بَنُو حَارِثَةَ، كَانُوا نَحْوَ أُحُدٍ، وَبَنُو سَلِمَةَ نَحْوَ سَلْعٍ، وَذَلِكَ يَوْمُ الْخَنْدَقِ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَقَدْ دَلَّلَنَا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ يَوْمَ أُحُدٍ فِيمَا مَضَى، بِمَا فِيهِ الْكِفَايَةُ عَنْ إِعَادَتِهِ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا‏}‏، الْآيَةَ، وَذَلِكَ يَوْمُ أُحُدٍ، وَالطَّائِفَتَانِ‏:‏ بَنُو سَلِمَةَ وَبَنُو حَارِثَةَ، حَيَّانِ مِنَ الْأَنْصَارِ، هَمُّوا بِأَمْرٍ فَعَصَمَهُمُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ قَالَ قَتَادَةَ‏:‏ وَقَدْ ذَكَرَ لَنَا أَنَّهُ لَمَّا أُنْـزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةَ قَالُوا‏:‏ مَا يَسُرُّنَا أَنَّا لَمْ نَهُمْ بِالَّذِي هَمَمْنَا بِهِ، وَقَدْ أَخْبَرَنَا اللَّهُ أَنَّهُ وَلِيُّنَا‏.‏

حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ‏}‏ الْآيَةَ، وَذَلِكَ يَوْمَ أُحُدٍ، فَالطَّائِفَتَانِ بَنُو سَلَمَةَ وَبَنُو حَارِثَةَ، حَيَّانِ مِنَ الْأَنْصَارِ‏.‏ فَذَكَرَ مِثْلَ قَوْلِ قَتَادَةَ‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ‏:‏ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَحَدٍ فِي أَلْفِ رَجُلٍ، وَقَدْ وَعَدَهُمُ الْفَتْحَ إِنْ صَبَرُوا‏.‏ فَلَمَّا رَجَعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ فِي ثَلَاثِمِائَةٍ فَتَبِعَهُمْ أَبُو جَابِرٍ السُّلَمِيُّ يَدْعُوهُمْ، فَلَمَّا غَلَبُوهُ وَقَالُوا لَهُ‏:‏ مَا نَعْلَمُ قِتَالًا وَلَئِنْ أَطَعْتَنَا لَتَرْجِعَنَّ مَعَنَا وَقَالَ ‏[‏اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ‏]‏‏:‏ ‏{‏إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا‏}‏، وَهُمْ بَنُو سَلِمَةَ وَبَنُو حَارِثَةَ هَمُّوا بِالرُّجُوعِ حِينَ رَجَعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيِّ، فَعَصَمَهُمْ اللَّهُ، وَبَقَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَبْعِمِائَةٍ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيجٍ قَالَ‏:‏ قَالَ عِكْرِمَةُ‏:‏ نَـزَلَتْ فِي بَنِي سَلِمَةَ مِنَ الْخَزْرَجِ، وَبَنِي حَارِثَةَ مِنَ الْأَوْسِ، وَرَأْسُهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا‏}‏، فَهُوَ بَنُو حَارِثَةَ وَبَنُو سَلِمَةَ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ‏:‏ ‏{‏إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا‏}‏، وَالطَّائِفَتَانِ‏:‏ بَنُو سَلِمَةَ مِنْ جَشْمِ بْنِ الْخَزْرَجِ، وَبَنُو حَارِثَةَ مِنَ النَّبِيتِ مِنَ الْأَوْسِ، وَهْمَا الْجَنَاحَانِ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ، عَنْ عَبَّادٍ، عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا‏}‏ الْآيَةَ، قَالَ‏:‏ هُمَا طَائِفَتَانِ مِنَ الْأَنْصَارِ هَمَّا أَنْ يَفْشَلَا فَعَصَمَهُمُ اللَّهُ، وَهَزَمَ عَدُوَّهُمْ‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ‏:‏ ‏{‏إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا‏}‏، قَالَ‏:‏ هُمْ بَنُو سَلِمَةَ وَبَنُو حَارِثَةَ، وَمَا نُحِبُّ أَنْ لَوْ لَمْ نَكُنْ هَمَمْنَا لِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا‏}‏‏.‏

حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ حَازِمٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيمٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرٍو قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ‏:‏ ‏{‏إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا‏}‏، قَالَ‏:‏ هَذَا يَوْمَ أُحُدٍ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏أَنْ تَفْشَلَا‏}‏، فَإِنَّهُ يَعْنِي‏:‏ هَمَّا أَنْ يَضْعُفَا وَيَجْبُنَا عَنْ لِقَاءِ عَدُوِّهِمَا‏.‏

يُقَالُ مِنْهُ‏:‏ ‏(‏فَشَلَ فُلَانُ عَنْ لِقَاءِ عَدُوِّهِ وَيَفْشَلُ فَشَلًا‏)‏، كَمَا‏:‏ حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيجٍ قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏(‏الْفَشَلُ‏)‏، الْجُبْنُ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَكَانَ هَمُّهُمَا الَّذِي هَمَّا بِهِ مِنَ الْفَشَلِ، الِانْصِرَافَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ حِينَ انْصَرَفَ عَنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ بِمَنْ مَعَهُ، جُبْنًا مِنْهُمْ، مِنْ غَيْرِ شَكٍّ مِنْهُمْ فِي الْإِسْلَامِ وَلَا نِفَاقٍ، فَعَصَمَهُمُ اللَّهُ مِمَّا هَمُّوا بِهِ مِنْ ذَلِكَ، وَمَضَوْا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِوَجْهِهِ الَّذِي مَضَى لَهُ، وَتَرَكُوا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ وَالْمُنَافِقِينَ مَعَهُ، فَأَثْنَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِمَا بِثُبُوتِهِمَا عَلَى الْحَقِّ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ وَلَيُّهُمَا وَنَاصَرَهُمَا عَلَى أَعْدَائِهِمَا مِنَ الْكُفَّارِ، كَمَا‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ‏:‏ ‏(‏وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا‏)‏، أَيْ‏:‏ الْمُدَافِعُ عَنْهُمَا مَا هَمَّتَا بِهِ مِنْ فَشَلِهِمَا‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ مِنْهُمَا عَنْ ضَعْفٍ وَوَهْنٍ أَصَابَهُمَا، مِنْ غَيْرِ شَكٍّ أَصَابَهُمَا فِي دِينِهِمَا، فَتَوَلَّى دَفْعُ ذَلِكَ عَنْهُمَا بِرَحْمَتِهِ وَعَائِدَتِهِ حَتَّى سَلَّمَتَا مِنْ وَهَنِهِمَا وَضَعْفِهِمَا، وَلَحِقَتَا بِنَبِّيهِمَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏ يَقُولُ‏:‏ ‏{‏وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ‏}‏، أَيْ‏:‏ مَنْ كَانَ بِهِ ضَعْفٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَوْ وَهَنٌ، فَلْيَتَوَكَّلْ عَلَيَّ، وَلْيُسْتَعَنْ بِي أُعِنْهُ عَلَى أَمْرِهِ، وَأَدْفَعُ عَنْهُ، حَتَّى أُبَلِّغَ بِهِ وَأُقَوِّيهِ عَلَى نِيَّتِهِ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَذَكَرَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَقْرَأُ‏:‏ ‏(‏وَاللَّهُ وَلِيُّهُمْ‏)‏، وَإِنَّمَا جَازَ أَنْ يَقْرَأَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ “الطَّائِفَتَيْنِ “ وَإِنْ كَانَتَا فِي لَفْظِ اثْنَيْنِ، فَإِنَّهُمَا فِي مَعْنَى جِمَاعٍ، بِمَنْـزِلَةِ “الْخَصْمَيْنِ “ وَ“الْحِزْبَيْنِ “‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏123‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا، وَيَنْصُرُكُمْ رَبُّكُمْ، “وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ “ عَلَى أَعْدَائِكُمْ وَأَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ “أَذِلَّةً “ يَعْنِي‏:‏ قَلِيلُونَ، فِي غَيْرِ مَنَعَةٍ مِنَ النَّاسِ، حَتَّى أَظْهَرَكُمُ اللَّهُ عَلَى عَدُوِّكُمْ، مَعَ كَثْرَةِ عَدَدِهِمْ وَقِلَّةِ عَدَدِكُمْ، وَأَنْتُمِ الْيَوْمُ أَكْثَرُ عَدَدًا مِنْكُمْ حِينَئِذٍ، فَإِنْ تَصْبِرُوا لِأَمْرِ اللَّهِ يَنْصُرُكُمْ كَمَا نَصَرَكُمْ ذَلِكَ الْيَوْمَ، ‏(‏فَاتَّقُوا اللَّهَ‏)‏، يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ فَاتَّقُوا رَبَّكُمْ بِطَاعَتِهِ وَاجْتِنَابِ مَحَارِمِهِ “لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏)‏، يَقُولُ‏:‏ لِتَشْكُرُوهُ عَلَى مَا مَنَّ بِهِ عَلَيْكُمْ مِنَ النَّصْرِ عَلَى أَعْدَائِكُمْ وَإِظْهَارِ دِينِكُمْ، وَلِمَا هَدَاكُمْ لَهُ مِنَ الْحَقِّ الَّذِي ضَلَّ عَنْهُ مُخَالِفُوكُمْ، كَمَا‏:‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ وَأَنْتُمْ أَقَلُّ عَدَدًا وَأَضْعَفَ قُوَّةً ‏{‏فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏}‏، أَيْ‏:‏ فَاتَّقَوْنِ، فَإِنَّهُ شُكْرُ نِعْمَتِي‏.‏

وَاخْتُلِفَ فِي الْمَعْنَى الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ سُمِّيَ بِدُرٌّ “بَدْرًا “‏.‏

فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ سُمِّيَ بِذَلِكَ، لِأَنَّهُ كَانَ مَاءً لِرَجُلٍ يُسَمَّى ‏{‏بَدْرًا‏)‏، فَسُمِّيَ بِاسْمِ صَاحِبِهِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ زَكَرِيَّا، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ‏:‏ كَانَتْ “بَدْرٌ “ لِرَجُلٍ يُقَالُ لَهُ “بَدْرٌ‏)‏، فَسُمِّيَتْ بِهِ‏.‏

حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا زَكَرِيَّا، عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ‏}‏، قَالَ‏:‏ كَانَتْ “بَدْرٌ “ بِئْرًا لِرَجُلٍ يُقَالُ لَهُ ‏(‏بَدْرٌ‏)‏، فَسُمِّيَتْ بِهِ‏.‏

وَأَنْكَرَ ذَلِكَ آخَرُونَ وَقَالُوا‏:‏ ذَلِكَ اسْمٌ سُمِّيَتْ بِهِ الْبُقْعَةُ، كَمَا سُمِّيَ سَائِرُ الْبُلْدَانِ بِأَسْمَائِهَا‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا الْحَارِثُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ سَعْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْوَاقِدِيُّ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ، عَنْ أَبِي الْأَسْودِ، عَنْ زَكَرِيَّا، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ‏:‏ إِنَّمَا سُمِّيَ ‏(‏بَدْرًا‏)‏، لِأَنَّهُ كَانَ مَاءٌ لِرَجُلٍ مِنْ جُهَيْنَةَ يُقَالُ لَهُ “بَدْرٌ “ وَقَالَ الْحَارِثُ، قَالَ ابْنُ سَعْدٍ، قَالَ الْوَاقِدِيُّ‏:‏ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ صَالِحٍ فَأَنْكَرَاهُ وَقَالَا فَلِأَيِّ شَيْءٍ سُمِّيَتْ “الصَّفْرَاءُ ‏"‏ وَلِأَيِّ شَيْءٍ سُمِّيَتْ “الْحَمْرَاءُ ‏"‏ وَلِأَيِّ شَيْءٍ سُمِّيَ “رَابِغٌ ‏"‏ هَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، إِنَّمَا هُوَ اسْمُ الْمَوْضِعِ قَالَ‏:‏ وَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِيَحْيَى بْنِ النُّعْمَانِ الْغِفَارِيِّ فَقَالَ‏:‏ سَمِعْتُ شُيُوخَنَا مِنْ بَنِي غَفَّارٍ يَقُولُونَ‏:‏ هُوَ مَاؤُنَا ومَنْـزِلُنَا، وَمَا مَلَكَهُ أَحَدٌ قَطُّ يُقَالُ لَهُ ‏(‏بَدْرٌ‏)‏، وَمَا هُوَ مِنْ بِلَادِ جُهَيْنَةَ، إِنَّمَا هِيَ بِلَادُ غِفَارٍ قَالَ الْوَاقِدِيُّ‏:‏ فَهَذَا الْمَعْرُوفُ عِنْدَنَا‏.‏

حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عُبَيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ‏:‏ ‏(‏بِدْرٌ‏)‏، مَاءٌ عَنْ يَمِينِ طَرِيقِ مَكَّةَ، بَيِّنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏أَذِلَّةٌ‏)‏، فَإِنَّهُ جَمْعُ “ذَلِيلٍ‏)‏، كَمَا “الْأَعِزَّةُ “ جَمْعُ ‏(‏عَزِيزٍ‏)‏، “والْأَلِبَّةُ “ جَمْعُ “لَبِيبٍ “‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَإِنَّمَا سَمَّاهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ‏(‏أَذِلَّةٌ‏)‏، لِقِلَّةِ عَدَدِهِمْ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا ثُلُثُمِئَةَ نَفْسٍ وَبِضْعَةَ عَشْرَ، وَعَدُوُّهُمْ مَا بَيْنَ التِّسْعِمَئَةِ إِلَى الْأَلْفِ-عَلَى مَا قَدْ بَيَّنَّا فِيمَا مَضَى- فَجَعَلَهُمْ لِقِلَّةِ عَدَدِهِمْ “أَذِلَّةٌ “‏.‏

وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏}‏، وَبَدْرٌ مَاءٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، التُّقَى عَلَيْهِ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُشْرِكُونَ، وَكَانَأَوَّلُ قِتَالٍ قَاتَلَهُ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ قَالَ لِأَصْحَابِهِ يَوْمَئِذٍ‏:‏ ‏(‏أَنْتُمِ الْيَوْمَ بِعِدَّةِ أَصْحَابِ طَالُوتَ يَوْمَ لَقَى جَالُوتَ‏)‏‏:‏ فَكَانُوا ثُلْثُمَئَةً وَبِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا وَالْمُشْرِكُونَ يَوْمَئِذٍ أَلْفٌ، أَوْ رَاهَقُوا ذَلِكَ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ، عَنْ عَبَّادٍ، عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏}‏، قَالَ‏:‏ يَقُولُ‏:‏ ‏(‏وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ‏)‏، قَلِيلٌ، وَهُمْ يَوْمَئِذٍ بِضْعَةَ عَشْرَ وَثَلَاثُمِائَةٌ‏.‏

حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، نَحْوَ قَوْلِ قَتَادَةَ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ‏}‏، أَقَلُّ عَدَدًا وَأَضْعَفُ قُوَّةً‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏)‏، فَإِنَّ تَأْوِيلَهُ، كَالَّذِي قَدْ بَيَّنْتُ، كَمَا‏:‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ‏:‏ ‏{‏فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏}‏، أَيْ‏:‏ فَاتَّقَوْنِي، فَإِنَّهُ شُكْرُ نِعْمَتِي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏124- 125‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْـزِلِينَ بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ، إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِكَ مِنْ أَصْحَابِكَ‏:‏ أَلِنْ يَكْفِيكُمْ أَنْ يَمُدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْـزَلِيْنَ‏؟‏ وَذَلِكَ يَوْمُ بَدْرٍ‏.‏

ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِيحُضُورِ الْمَلَائِكَةِ يَوْمَ بَدْرٍحَرَبَهُمْ، فِي أَيِّ يَوْمٍ وُعِدُوا ذَلِكَ‏؟‏

فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ كَانَ وَعْدَ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ بَدْرٍ أَنْ يُمِدَّهُمْ بِمَلَائِكَتِهِ، إِنْ أَتَاهُمُ الْعَدُوُّ مِنْ فَوْرِهِمْ، فَلَمْ يَأْتُوهُمْ، وَلِمَ يُمَدُّوا‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا دَاوُدُ، عَنْ عَامِرٍ قَالَ‏:‏ حُدِّثَ الْمُسْلِمُونَ أَنْ كُرْزَ بْنَ جَابِرٍ الْمُحَارِبِيُّ يُمِدُّ الْمُشْرِكِينَ، قَالَ‏:‏ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَقِيلَ لَهُمْ‏:‏ ‏{‏أَلِنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْـزَلِيْنَ بَلَى إِنَّ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يَمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِيْنَ‏}‏، قَالَ‏:‏ فَبَلَغَتْ كُرْزًا الْهَزِيْمَةَ، فَرَجَعَ، وَلَمْ يَمُدُّهُمْ بِالْخَمْسَةِ‏.‏

حَدَّثَنِي ابْنُ الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا دَاوُدُ، عَنْ عَامِرٍ قَالَ‏:‏ لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ بَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَهُ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ‏:‏ ‏{‏وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا‏}‏-يَعْنِي كُرْزًا وَأَصْحَابَهُ- ‏{‏يَمْدُدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِيْنَ‏}‏، قَالَ‏:‏ فَبَلَغَ كُرْزًا وَأَصْحَابَهُ الْهَزِيْمَةُ، فَلَمْ يَمُدُّهُمْ، وَلِمَ تَنْـزِلِ الْخَمْسَةُ، وَأُمِدُّوا بَعْدَ ذَلِكَ بِأَلْفٍ، فَهُمْ أَرْبَعَةُ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ، عَنْ عَبَّادِ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ‏}‏، الْآيَةَ كُلُّهَا، قَالَ‏:‏ هَذَا يَوْمَ بَدْرٍ‏.‏

حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ دَاوُدَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ‏:‏ حُدِّثَ الْمُسْلِمُونَ أَنْ كُرْزَ بْنَ جَابِرٍ الْمُحَارِبِيُّ يُرِيدُ أَنْ يَمُدَّ الْمُشْرِكِينَ بِبَدْرٍ، قَالَ‏:‏ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ؛ فَأَنْـزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ‏{‏أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ‏}‏ إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ‏}‏، قَالَ‏:‏ فَبَلَغَتْهُ هَزِيْمَةُ الْمُشْرِكِينَ، فَلَمْ يَمُدْ أَصْحَابَهُ، وَلَمْ يُمَدُّوا بِالْخَمْسَةِ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ كَانَ هَذَا الْوَعْدُ مِنَ اللَّهِ لَهُمْ يَوْمَ بِدْرٍ، فَصَبَرَ الْمُؤْمِنُونَ وَاتَّقَوُا اللَّهَ، فَأَمَدَّهُمْ بِمَلَائِكَتِهِ عَلَى مَا وَعَدَهُمْ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بِكِيرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ بَعْضِ بَنِي سَاعِدَةَ قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ أَبَا أُسَيْدٍ مَالِكَ بْنَ رَبِيعَةَ بَعْدَ مَا أُصِيبَ بَصَرُهُ يَقُولُ‏:‏ لَوْ كُنْتُ مَعَكُمْ بِبَدْرٍ الْآنَ وَمَعِي بَصَرِي، لَأَخْبَرَتْكُمْ بِالشِّعْبِ الَّذِي خَرَجَتْ مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ، لَا أَشُكُّ وَلَا أَتَمَارَى‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ بَعْضِ بَنِي سَاعِدَةَ، عَنْ أَبِي أُسَيْدٍ مَالِكِ بْنِ رَبِيعَةَ، وَكَانَ شَهِدَ بَدْرًا‏:‏ أَنَّهُ قَالَ بَعْدَ إِذْ ذَهَبَ بَصَرُهُ‏:‏ لَوْ كُنْتُ مَعَكُمُ الْيَوْمَ بِبَدْرٍ وَمَعِي بَصَرِي، لَأَرَيْتُكُمُ الشِّعْبَ الَّذِي خَرَجَتْ مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ، لَا أَشُكُّ وَلَا أَتَمَارَى‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ‏:‏ أَنَّهُ حُدِّثَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ أَنِ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنْ بَنِي غِفَارٍ قَالَ‏:‏ أَقْبَلْتُ أَنَا وَابْنُ عَمٍّ لِي حَتَّى أَصْعَدَنَا فِي جَبَلٍ يُشْرِفُ بِنَا عَلَى بِدْرٍ، وَنَحْنُ مُشْرِكَانِ، نَنْتَظِرُ الْوَقْعَةَ، عَلَى مَنْ تَكُونُ الدَّبْرَةُ فَنَنْتَهِبُ مَعَ مَنْ يَنْتَهِبُ‏.‏ قَالَ‏:‏ فَبَيَّنَّا نَحْنُ فِي الْجَبَلِ، إِذْ دَنَتْ مِنَّا سَحَابَةٌ، فَسَمِعْنَا فِيهَا حَمْحَمَةُ الْخَيْلِ، فَسَمِعْتُ قَائِلًا يَقُولُ‏:‏ أَقْدِمْ حَيْزُومُ‏.‏ قَالَ‏:‏ فَأَمَّا ابْنُ عَمِّي فَانْكَشَفَ قِنَاعُ قَلْبِهِ فَمَاتَ مَكَانُهُ، وَأَمَّا أَنَا فَكِدْتُ أَهْلَكُ، ثُمَّ تَمَاسَكَتْ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ‏:‏ وَحَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ عُمَارَةَ، عَنِ الْحُكْمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، عَنْ مَقْسِمٍ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ‏:‏ لَمْ تُقَاتِلِ الْمَلَائِكَةُ فِي يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ سِوَى يَوْمَ بَدْرٍ، وَكَانُوا يَكُونُونَ فِيمَا سِوَاهُ مِنَ الْأَيَّامِ عَدَدًا وَمَدَدًا لَا يَضْرِبُونَ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ قَالَ‏:‏ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي أَبِي إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ رِجَالٍ مِنْ بَنِي مَازِنِ بْنِ النَّجَّارِ، عَنْ أَبِي دَاوُدَ الْمَازِنِيِّ، وَكَانَ شَهْدَ بَدْرًا قَالَ‏:‏ إِنِّي لِأَتْبَعُ رَجُلًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ لِأَضْرِبَهُ، إِذْ وَقَعَ رَأْسُهُ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ سَيْفِي، فَعَرَفَتْ أَنَّ قَدْ قَتَلَهُ غَيْرِي‏.‏

حَدَّثَنِي ابْنُ حُمَيدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ قَالَ‏:‏ قَالَ مُحَمَّدٌ‏:‏ حَدَّثَنِي حُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ‏:‏ قَالَ أَبُو رَافِعٍ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ كُنْتُ غُلَامًا لِلْعَبَّاسِ بْنِ عَبَدَ الْمَطْلَبِ، وَكَانَ الْإِسْلَامُ قَدْ دَخَلَنَا أَهْلَ الْبَيْتِ، فَأَسْلَمَ الْعَبَّاسُ وَأَسْلَمَتْأُمُّ الْفَضْلِوَأَسْلَمْتُ‏.‏ وَكَانَ الْعَبَّاسُ يَهَابُ قَوْمَهُ وَيَكْرَهُ أَنْ يُخَالِفَهُمْ، وَكَانَ يَكْتُمُ إِسْلَامَهُ، وَكَانَ ذَا مَالٍ كَثِيرٍ مُتَفَرِّقٍ فِي قَوْمِهِ‏.‏ وَكَانَ أَبُو لَهَبٍ عَدُوَّ اللَّهِ قَدْ تَخَلَّفَ عَنْ بَدْرٍ وَبَعْثَ مَكَانِهِ الْعَاصِي بْنَ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ‏.‏ وَكَذَلِكَ صَنَعُوا، لَمْ يَتَخَلَّفْ رَجُلٌ إِلَّا بَعَثَ مَكَانُهُ رَجُلًا‏.‏ فَلَمَّا جَاءَ الْخَبَرُ عَنْ مُصَابِ أَصْحَابِ بَدْرٍ مِنْ قُرَيْشٍ كَبَتَهُ اللَّهُ وَأَخْزَاهُ، وَوَجَدْنَا فِي أَنْفُسِنَا قُوَّةً وَعِزًّا‏.‏ قَالَ‏:‏ وَكُنْتُ رَجُلًا ضَعِيفًا، وَكُنْتُ أَعْمَلُ الْقِدَاحَ أَنْحِتُهَا فِي حُجْرَةِ زَمْزَمٍ، فَوَاللَّهِ إِنِّي لِجَالِسٍ فِيهَا أَنْحِتُ الْقَدَّاحَ، وَعِنْدِيأُمُّ الْفَضْلِجَالِسَةٌ، وَقَدْ سَرَّنَا مَا جَاءَنَا مِنَ الْخَبَرِ، إِذْ أَقْبَلُ الْفَاسِقُ أَبُو لَهَبٍ يَجُرُّ رِجْلَيْهِ بِشَرٍّ حَتَّى جَلَسَ عَلَى طُنُبِ الْحُجْرَةِ، فَكَانَ ظَهْرُهُ إِلَى ظَهْرِي‏.‏ فَبَيَّنَّا هُوَ جَالِسٌ إِذْ قَالَ النَّاسُ‏:‏ هَذَا أَبُو سُفْيَانِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمَطْلَبِ قَدْ قَدِمَ‏!‏ قَالَ‏:‏ قَالَ أَبُو لَهَبٍ‏:‏ هَلُمَّ إِلَيَّ يَا ابْنَ أَخِي، فَعِنْدَكَ الْخَبَرُ‏!‏ قَالَ‏:‏ فَجَلَسَ إِلَيْهِ وَالنَّاسُ قِيَامٌ عَلَيْهِ، فَقَالَ‏:‏ يَا ابْنَ أَخِي أَخْبِرْنِي، كَيْفَ كَانَ أَمْرُ النَّاسِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ لَا شَيْءَ وَاللَّهِ، إِنْ كَانَ إِلَّا أَنْ لَقِينَاهُمْ فَمَنَحْنَاهُمْ أَكْتَافَنَا يَقْتُلُونَنَا وَيَأْسِرُونَنَا كَيْفَ شَاؤُوا‏!‏ وَايْمُ اللَّهِ، مَعَ ذَلِكَ مَا لُمْتُ النَّاسَ، لَقِينَا رِجَالًا بَيْضًا عَلَى خَيْلٍ بَلَقٍ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مَا تَلِيقُ شَيْئًا، وَلَا يَقُومُ لَهَا شَيْءٌ‏.‏ قَالَ أَبُو رَافِعٍ‏:‏ فَرَفَعَتْ طُنُبَ الْحُجْرَةِ بِيَدِي ثُمَّ قُلْتُ‏:‏ تِلْكَ الْمَلَائِكَةُ‏!‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ عُمَارَةَ، عَنِ الْحُكْمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، عَنْ مَقْسِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ‏:‏ كَانَ الَّذِي أَسَرَ الْعَبَّاسَ أَبَا الْيَسَرِ كَعَّبَ بْنَ عَمْرٍو أَخُو بَنِي سَلِمَةَ، وَكَانَ أَبُو الْيَسَرِ رَجُلًا مَجْمُوعًا، وَكَانَ الْعَبَّاسُ رَجُلًا جَسِيمًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي الْيَسَرِ‏:‏ كَيْفَ أَسَرْتَ الْعَبَّاسَ أَبَا الْيَسَرِ‏؟‏‏!‏ قَالَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَقَدْ أَعَانَنِي عَلَيْهِ رَجُلٌ مَا رَأَيْتُهُ قَبْلَ ذَلِكَ وَلَا بَعْدَهُ، هَيْئَتُهُ كَذَا وَكَذَا‏!‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏(‏لَقَدْ أَعَانَكَ عَلَيْهِ مَلَكٌ كَرِيمٌ‏)‏‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ‏}‏، أُمِدُّوا بِأَلْفٍ، ثُمَّ صَارُوا ثَلَاثَةَ آلَافٍ، ثُمَّ صَارُوا خَمْسَةَ آلَافٍ ‏{‏بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ‏}‏، وَذَلِكَ يَوْمُ بَدْرٍ، أَمَدَّهُمُ اللَّهُ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ‏.‏

حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، بِنَحْوِهِ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ‏}‏، فَإِنَّهُمْ أَتَوْا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسَوِّمِينَ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ خَثِيمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ‏:‏ لَمْ تُقَاتِلِ الْمَلَائِكَةُ إِلَّا يَوْمَ بَدْرٍ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ إِنَّمَا وَعْدُهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ أَنْ يَمُدَّهُمْ إِنْ صَبَرُوا عِنْدَ طَاعَتِهِ وَجِهَادِ أَعْدَائِهِ، وَاتَّقَوْهُ بِاجْتِنَابِ مَحَارِمِهِ، أَنْ يَمُدَّهُمْ فِي حُرُوبِهِمْ كُلِّهَا، فَلَمْ يَصْبِرُوا وَلَمْ يَتَّقُوا إِلَّا فِي يَوْمِ الْأَحْزَابِ، فَأَمَدَّهُمْ حِينَ حَاصَرُوا قُرَيْظَةَ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُمَارَةَ الْأَسَدِيُّ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عُبَيدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ زَيْدٍ أَبُو إِدَامٍ الْمُحَارِبِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ‏:‏ كُنَّا مُحَاصِرِي قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ نُحَاصِرَهُمْ، فَلَمْ يَفْتَحْ عَلَيْنَا، فَرَجَعْنَا، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَاءٍ فَهُوَ يَغْسِلُ رَأْسَهُ، إِذْ جَاءَهُ جِبْرِيلُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ‏:‏ يَا مُحَمَّدُ، وَضَعْتُمْ أَسْلِحَتَكُمْ وَلَمْ تَضَعِ الْمَلَائِكَةُ أَوْزَارَهَا‏!‏ فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخِرْقَةٍ، فَلَفَّ بِهَا رَأْسَهُ وَلَمْ يَغْسِلْهُ، ثُمَّ نَادَى فِينَا فَقُمْنَا كَالِّينَ مُعْيِينَ لَا نَعْبَأُ بِالسَّيْرِ شَيْئًا، حَتَّى أَتَيْنَا قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرَ، فَيَوْمَئِذَ أَمَدَّنَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَفَتَحَ اللَّهُ لَنَا فَتْحًا يَسِيرًا، فَانْقَلَبْنَا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ بِنَحْوِ هَذَا الْمَعْنَى، غَيْرَ أَنَّهُمْ قَالُوا‏:‏ لَمْ يَصْبِرِ الْقَوْمُ وَلَمْ يَتَّقُوا وَلَمْ يُمَدُّوا بِشَيْءٍ فِي أُحُدٍ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيجٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، سَمِعَهُ يَقُولُ‏:‏ ‏{‏بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا‏}‏، قَالَ‏:‏ يَوْمُ بَدْرٍ‏.‏ قَالَ‏:‏ فَلَمْ يَصْبِرُوا وَلَمْ يَتَّقُوا فَلَمْ يُمَدُّوا يَوْمَ أُحُدٍ، وَلَوْ مُدُّوا لَمْ يُهْزَمُوا يَوْمَئِذٍ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَينَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ عِكْرِمَةَ يَقُولُ‏:‏ لَمْ يُمَدُّوا يَوْمَ أُحُدٍ وَلَا بِمَلَكٍ وَاحِدٍ أَوْ قَالَ‏:‏ إِلَّا بِمَلَكٍ وَاحِدٍ، أَبُو جَعْفَرٍ يَشُكُّ‏.‏

حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ عُبَيدَ بْنَ سُلَيْمَانَ، عَنِ الضَّحَّاكِ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ‏}‏ إِلَى ‏{‏خَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينِ‏}‏، كَانَ هَذَا مَوْعِدًا مِنَ اللَّهِ يَوْمَ أُحِدٍ عَرَضَهُ عَلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ إِنِ اتَّقَوْا وَصَبَرُوا أَمُدُّهُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ؛ فَفَرَّ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَ أُحُدٍ وَوَلَّوْا مُدَبِّرِينَ، فَلَمْ يَمُدُّهُمُ اللَّهُ‏.‏

حَدَّثَنَا يُونُسُ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا‏}‏ الْآيَةَ كُلَّهَا‏.‏ قَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُمْ يَنْظُرُونَ الْمُشْرِكِينَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَيْسَ يَمُدُّنَا اللَّهُ كَمَا أَمَدَّنَا يَوْمَ بَدْرٍ‏؟‏ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏{‏أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ‏}‏، وَإِنَّمَا أَمَدَّكُمْ يَوْمَ بَدْرٍ بِأَلْفٍ‏؟‏ قَالَ‏:‏ فَجَاءَتِ الزِّيَادَةُ مِنَ اللَّهِ عَلَى أَنْ يَصْبِرُوا وَيَتَّقُوا، قَالَ‏:‏ بِشَرْطِ أَنْ يَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يَمْدِدْكُمْ رَبُّكُمُ الْآيَةَ كُلَّهَا‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ أَنْ يُقَالَ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ عَنْ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِلْمُؤْمِنِينَ‏:‏ أَلِنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ‏؟‏ فَوَعَدَهُمُ اللَّهُ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مَدَدًا لَهُمْ، ثُمَّ وَعَدَهُمْ بَعْدَ الثَّلَاثَةِ الْآلَافِ، خَمْسَةَ آلَافٍ إِنَّ صَبَرُوا لِأَعْدَائِهِمْ وَاتَّقَوُا اللَّهَ‏.‏ وَلَا دَلَالَةَ فِي الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُمْ أُمِدُّوا بِالثَّلَاثَةِ آلَافٍ، وَلَا بِالْخَمْسَةِ آلَافٍ، وَلَا عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يُمَدُّوا بِهِمْ‏.‏

وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَمَدَّهُمْ، عَلَى نَحْوِ مَا رَوَاهُ الَّذِينَ أَثْبَتُوا أَنَّهُ أَمَدَّهُمْ وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَمْ يُمِدْهُمْ عَلَى نَحْوِ الَّذِي ذَكَرَهُ مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ‏.‏ وَلَا خَبَرَ عِنْدَنَا صَحَّ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي يُثْبِتُ أَنَّهُمْ أُمِدُّوا بِالثَّلَاثَةِ الْآلَافِ وَلَا بِالْخَمْسَةِ الْآلَافِ‏.‏ وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُقَالَ فِي ذَلِكَ قَوْلٌ إِلَّا بِخَبَرٍ تَقُومُ الْحُجَّةُ بِهِ‏.‏ وَلَا خَبَرَ بِهِ كَذَلِكَ، فَنُسَلِّمُ لِأَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ قَوْلَهُ‏.‏ غَيْرَ أَنَّ فِي الْقُرْآنِ دَلَالَةً عَلَى أَنَّهُمْ قَدْ أُمَدُّوا يَوْمَ بَدْرٍ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْأَنْفَالِ‏:‏ 9‏]‏ فَأَمَّا فِي يَوْمِ أُحُدٍ، فَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يُمَدُّوا أَبَيَنُ مِنْهَا فِي أَنَّهُمْ أُمِدُّوا‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَوْ أُمِدُّوا لَمْ يُهْزَمُوا، وَيُنَالُ مِنْهُمْ مَا نِيْلَ مِنْهُمْ‏.‏ فَالصَّوَابُ فِيهِ مِنَ الْقَوْلِ أَنْ يُقَالَ كَمَا قَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏.‏

وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى “الْإِمْدَادِ “ فِيمَا مَضَى، ‏(‏وَالْمَدَدَ‏)‏، وَمَعْنَى “الصَّبْرِ “ وَ“التَّقْوَى‏.‏ “

وَأَمَّاقَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا‏)‏، فَإِنَّ أَهْلَ التَّأْوِيلِ اخْتَلَفُوا فِيهِ‏.‏

فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ مَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا‏)‏، مِنْ وَجْهِهِمْ هَذَا‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا حُمَيدُ بْنُ مسْعَدَةَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ غِيَاثٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ‏:‏ ‏{‏وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا‏}‏، قَالَ‏:‏ مِنْ وَجْهِهِمْ هَذَا‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏{‏مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا‏}‏، يَقُولُ‏:‏ مِنْ وَجْهِهِمْ هَذَا‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، مِثْلَهُ‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبَّادُ، عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا‏}‏، مِنْ وَجْهِهِمْ هَذَا‏.‏

حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا‏}‏، يَقُولُ‏:‏ مِنْ وَجْهِهِمْ هَذَا‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا‏}‏ يَقُولُ‏:‏ مِنْ وَجْهِهِمْ هَذَا‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا‏}‏، يَقُولُ‏:‏ مِنْ سَفَرِهِمْ هَذَ وَيُقَالُ-يَعْنِي عَنْ غَيْرِ ابْنِ عَبَّاسٍ- بَلْ هُوَ مِنْ غَضَبِهِمْ هَذَا‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ‏:‏ ‏(‏مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا‏)‏، مِنْ وَجْهِهِمْ هَذَا‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ مَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ مِنْ غَضَبِهِمْ هَذَا‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا دَاوُدُ، عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ‏}‏، قَالَ‏:‏ ‏(‏فَوْرِهِمْ ذَلِكَ‏)‏، كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ، غَضِبُوا لِيَوْمِ بَدْرٍ مِمَّا لَقُوا‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُمَارَةَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ عَامِرٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ أَبَا صَالِحٍ مَوْلَى أَمْ هَانِئٍ يَقُولُ‏:‏ ‏{‏مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا‏}‏، يَقُولُ‏:‏ مِنْ غَضَبِهِمْ هَذَا‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا‏}‏، قَالَ‏:‏ غَضَبٌ لَهُمْ، يَعْنِي الْكُفَّارَ، فَلَمْ يُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ تِلْكَ السَّاعَةِ، وَذَلِكَ يَوْمَ أُحُدٍ‏.‏

حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ جُرَيجٍ، قَالَ مُجَاهِدٌ‏:‏ ‏{‏مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا‏}‏، قَالَ‏:‏ مِنْ غَضَبِهِمْ هَذَا‏.‏

حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عُبَيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا‏}‏، يَقُولُ‏:‏ مِنْ وَجْهِهِمْ وَغَضَبِهِمْ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَأَصِلُ ‏(‏الْفَوْرِ‏)‏، ابْتِدَاءُ الْأَمْرِ يُؤْخَذُ فِيهِ، ثُمَّ يُوصَلُ بِآخَرِ، يُقَالُ مِنْهُ‏:‏ ‏(‏فَارَتِ الْقِدْرُ فَهِيَ تَفُورُ فَوْرًا وَفَوَرَانًا‏)‏ إِذَا ابْتَدَأَ مَا فِيهَا بِالْغَلَيَانِ ثُمَّ اتَّصَلَ‏.‏ وَ‏(‏مَضَيْتُ إِلَى فُلَانٍ مِنْ فَوْرِي ذَلِكَ‏)‏، يُرَادُ بِهِ‏:‏ مِنْ وَجْهَيِ الَّذِي ابْتَدَأَتْ فِيهِ‏.‏

فَالَّذِي قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ‏:‏ مَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا‏)‏، مِنْ “وَجَّهِهِمْ هَذَا “ قَصَدَ إِلَى أَنَّ تَأْوِيلَهُ‏:‏ وَيَأْتِيكُمْ كُرْزُ بْنُ جَابِرٍ وَأَصْحَابُهُ يَوْمَ بَدْرٍ مِنِ ابْتِدَاءِ مَخْرِجِهِمِ الَّذِي خَرَجُوا مِنْهُ لِنُصْرَةِ أَصْحَابِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ‏.‏

وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا‏:‏ مَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ مِنْ غَضَبِهِمْ هَذَا فَإِنَّمَا عَنَوْا أَنَّ تَأْوِيلَ ذَلِكَ‏:‏ وَيَأْتِيكُمْ كَفَّارُ قُرَيْشٍ وَتُبَّاعُهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ مِنِ ابْتِدَاءِ غَضَبِهِمِ الَّذِي غَضِبُوهُ لِقَتْلَاهُمُ الَّذِينَ قَتَلُوا يَوْمَ بَدْرٍ بِهَا، يَمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ‏.‏

وَلِذَلِكَ مِنَ اخْتِلَافِ تَأْوِيلِهِمْ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا‏)‏، اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِيإِمْدَادِ اللَّهِ الْمُؤْمِنِينَ بِأُحُدٍ بِمَلَائِكَتِهِ‏.‏

فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ لَمْ يُمَدُّوا بِهِمْ، لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَصْبِرُوا لِأَعْدَائِهِمْ وَلَمْ يَتَّقُوا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، بِتَرْكِ مَنْ تَرَكَ مِنَ الرُّمَاةِ طَاعَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ثُبُوتِهِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي أَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالثُّبُوتِ فِيهِ، وَلَكِنَّهُمْ أَخَلُّوا بِهِ طَلَبَ الْغَنَائِمِ، فَقُتِلَ مِنْ قُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَنَالَ الْمُشْرِكُونَ مِنْهُمْ مَا نَالُوا، وَإِنَّمَا كَانَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَعْدَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِمْدَادَهُمْ بِهِمْ إِنْ صَبَرُوا وَاتَّقَوُا اللَّهَ‏.‏

وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا‏:‏ كَانَ ذَلِكَ يَوْمَ بَدْرٍ بِسَبَبِ كُرْزِ بْنِ جَابِرٍ، فَإِنَّ بَعْضَهُمْ قَالُوا‏:‏ لَمْ يَأْتِ كُرْزُ وَأَصْحَابُهُ إِخْوَانَهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مَدَدًا لَهُمْ بِبَدْرٍ، وَلَمْ يَمُدِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِمَلَائِكَتِهِ، لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِنَّمَا وَعَدَهُمْ أَنْ يَمُدَّهُمْ بِمَلَائِكَتِهِ إِنْ أَتَاهُمْ كُرْزُ وَمَدَدُ الْمُشْرِكِينَ مِنْ فَوْرِهِمْ، وَلَمْ يَأْتِهِمِ الْمَدَدُ‏.‏

وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا‏:‏ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَمَدَّ الْمُسْلِمِينَ بِالْمَلَائِكَةِ يَوْمَ بَدْرٍ، فَإِنَّهُمُ اعْتَلَوْا بِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏{‏إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْأَنْفَالِ‏:‏ 9‏]‏، قَالَ‏:‏ فَالْأَلْفُ مِنْهُمْ قَدْ أَتَاهُمْ مَدَدًا‏.‏ وَإِنَّمَا الْوَعْدُ الَّذِي كَانَتْ فِيهِ الشُّرُوطُ، فَمَا زَادَ عَلَى الْأَلْفِ، فَأَمَّا الْأَلْفُ فَقَدْ كَانُوا أُمِدُّوا بِهِ، لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ كَانَ قَدْ وَعَدَهُمْ ذَلِكَ، وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَاخْتَلَفَ الْقَرَأَةُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏مُسَوِّمِينَ‏)‏‏.‏

فَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قَرَأَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْكُوفَةِ‏:‏ ‏(‏مُسَوَّمِينَ‏)‏ بِفَتْحِ ‏(‏الْوَاوِ‏)‏، بِمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ سَوَّمَهَا‏.‏

وَقَرَأَ ذَلِكَ بَعْضُ قَرَأَةِ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ‏:‏ ‏(‏مُسَوِّمِينَ‏)‏ بِكَسْرِ ‏(‏الْوَاوِ‏)‏، بِمَعْنَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ سَوَّمَتْ لِنَفْسِهَا‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَأَوْلَى الْقِرَاءَتَيْنِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ بِكَسْرِ ‏(‏الْوَاوِ‏)‏، لِتَظَاهُرِ الْأَخْبَارِ عَنْ ‏[‏أَصْحَابِ‏]‏ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَهْلُ التَّأْوِيلِ مِنْهُمْ وَمِنِ التَّابِعَيْنِ بَعْدَهُمْ بِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ هِيَ الَّتِي سَوَّمَتْ أَنْفُسَهَا، مِنْ غَيْرِ إِضَافَةِ تَسْوِيْمِهَا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، أَوْ إِلَى غَيْرِهِ مِنْ خَلْقِهِ‏.‏

وَلَا مَعْنًى لِقَوْلِ مَنْ قَالَ‏:‏ إِنَّمَا كَانَ يُخْتَارُ الْكَسْرَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏مُسَوِّمِينَ‏)‏، لَوْ كَانَ فِي الْبَشَرِ، فَأَمَّا الْمَلَائِكَةُ فَوَصْفُهُمْ غَيْرُ ذَلِكَ ظَنًا مِنْهُ بِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ غَيْرُ مُمْكِنٍ فِيهَا تَسْوِيمُ أَنْفُسِهَا إِمْكَانَ ذَلِكَ فِي الْبَشَرِ‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَحِيلٍ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَكَّنَهَا مِنْ تَسْوِيمِ أَنْفُسِهَا نَحْوَ تَمْكِينِهِ الْبَشَرَ مِنْ تَسْوِيمِ أَنْفُسِهِمْ، فَسَوَّمُوا أَنْفُسَهُمْ نَحْوَ الَّذِي سَوَّمَ الْبَشَرَ، طَلَبًا مِنْهَا بِذَلِكَ طَاعَةَ رَبِّهَا، فَأُضِيفُ تَسْوِيْمُهَا أَنْفُسَهَا إِلَيْهَا‏.‏ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ عَنْ تَسْبِيبِ اللَّهِ لَهُمْ أَسْبَابَهُ‏.‏ وَهِيَ إِذَا كَانَتْ مَوْصُوفَةٌ بِتَسْوِيْمِهَا أَنْفُسَهَا تَقَرُّبًا مِنْهَا إِلَى رَبِّهَا، كَانَ أَبْلَغَ فِي مَدْحِهَا لِاخْتِيَارِهَا طَاعَةَ اللَّهِ مِنْ أَنْ تَكُونَ مَوْصُوفَةً بِأَنَّ ذَلِكَ مَفْعُولٌ بِهَا‏.‏

ذِكْرُ الْأَخْبَارِ بِمَا ذَكَرْنَا‏:‏ مِنْ إِضَافَةِ مَنْ أَضَافَ التَّسْوِيمَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ، دُونَ إِضَافَةِ ذَلِكَ إِلَى غَيْرِهِمْ، عَلَى نَحْوِ مَا قُلْنَا فِيهِ‏:‏

حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ عَوْنٍ، عَنْ عُمَيْرِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ‏:‏ إِنَّ أَوَّلَ مَا كَانَ الصُّوفُ لِيومَئَذٍ يَعْنِي يَوْمَ بَدْرٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏(‏تَسَوَّمُوا، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ قَدْ تَسَوَّمَت‏)‏‏.‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا مُخْتَارُ بْنُ غَسَّانٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْغَسِيلِ، عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْمُنْذِرِ، عَنْ جَدِّهِ أَبِي أُسَيدٍ-وَكَانَ بَدْرِيًّا- فَكَانَ يَقُولُ‏:‏ لَوْ أَنَّ بَصَرِي فُرِّجَ مِنْهُ، ثُمَّ ذَهَبْتُمْ مَعِي إِلَى أُحِدٍ، لَأَخْبَرَتْكُمْ بِالشِّعْبِ الَّذِي خَرَجَتْ مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ فِي عَمَائِمَ صُفْرٍ قَدْ طَرَحُوهَا بَيْنَ أَكْتَافِهِمْ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ مُعَلِّمِينَ، مَجْزُوزَةٌ أَذْنَابُ خَيْلِهِمْ، وَنَوَاصِيهَا- فِيهَا الصُّوفُ أَوِ الْعِهْنُ، وَذَلِكَ التَّسْوِيمُ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا حُكَّامٌ، عَنْ عَنْبَسَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي بَزَّةَ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ‏}‏، قَالَ‏:‏ مَجْزُوزَةٌ أَذْنَابُهَا، وَأَعْرَافُهَا فِيهَا الصُّوفُ أَوِ الْعِهْنُ، فَذَلِكَ التَّسْوِيمُ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏{‏مُسَوِّمِينَ‏}‏، ذَكَرَ لَنَا أَنَّ سِيمَاهُمْ يَوْمَئِذٍ، الصُّوفُ بِنَوَاصِي خَيْلِهِمْ وَأَذْنَابِهَا، وَأَنَّهُمْ عَلَى خَيْلٍ بُلْقٍ‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏مُسَوِّمِينَ‏}‏، قَالَ‏:‏ كَانَ سِيمَاهَا صُوفًا فِي نَوَاصِيهَا‏.‏

حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ‏:‏ ‏{‏مُسَوِّمِينَ‏}‏، قَالَ‏:‏ كَانَتْ خُيُولُهُمْ مَجْزُوزَةَ الْأَعْرَافِ، مُعْلِمَةٌ نَوَاصِيهَا وَأَذْنَابُهَا بِالصُّوفِ وَالْعِهْنِ‏.‏

حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ‏:‏ كَانُوا يَوْمَئِذٍ عَلَى خَيْلٍ بُلْقٍ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ قَالَ‏:‏ أَخْبَرْنَا جُوَيْبِرٌ، عَنِ الضَّحَّاكِ وَبَعْضِ أَشْيَاخِنَا، عَنِ الْحَسَنِ، نَحْوَ حَدِيثِ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏(‏مُسَوِّمِينَ‏)‏، مُعَلِّمِينَ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ‏)‏، فَإِنَّهُمْ أَتَوْا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مُسَوِّمِينَ بِالصُّوفِ، فَسَوَّمَ مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ أَنْفُسَهُمْ وَخَيْلَهُمْ عَلَى سِيمَاهُمْ بِالصُّوفِ‏.‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ يَمَانٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ حَمْزَةَ قَالَ‏:‏ نَـزَلَتِ الْمَلَائِكَةُ فِي سِيْمَا الزُّبَيْرِ، عَلَيْهِمْ عَمَائِمٌ صِفْرٌ‏.‏ وَكَانَتْ عِمَامَةُ الزُّبَيْرِ صَفْرَاءَ‏.‏

حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا جُوَيْبِرٌ، عَنِ الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏مُسَوِّمِينَ‏}‏، قَالَ‏:‏ بِالصُّوفِ فِي نَوَاصِيهَا وَأَذْنَابِهَا‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ قَالَ‏:‏ نَـزَلَتِ الْمَلَائِكَةُ يَوْمَ بَدْرٍ عَلَى خَيْلٍ بَلَقٍ، عَلَيْهِمْ عَمَائِمٌ صِفْرٌ‏.‏ وَكَانَ عَلَى الزُّبَيْرِ يَوْمَئِذٍ عِمَامَةٌ صَفْرَاءُ‏.‏

حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى الصُّوفِيُّ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ شَرِيكٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ‏:‏ أَنَّ الزُّبَيْرَ كَانَتْ عَلَيْهِ مُلَاءَةٌ صَفْرَاءُ يَوْمَ بَدْرٍ، فَاعْتِمْ بِهَا، فَنَـزَلَتِ الْمَلَائِكَةُ يَوْمَ بَدْرٍ عَلَى نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعَمَّمَيْنِ بِعَمَائِمَ صِفْرٍ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ فَهَذِهِ الْأَخْبَارُ الَّتِي ذَكَرَنَا بَعْضَهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِأَصْحَابِهِ‏:‏ ‏(‏تَسَوَّمُوا فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ قَدْ تَسَوَّمَت‏)‏ وَقَوْلُ أَبِي أُسَيدٍ‏:‏ ‏(‏خَرَجَتِ الْمَلَائِكَةُ فِي عَمَائِمَ صِفْرٍ قَدْ طَرَحُوهَا بَيْنَ أَكْتَافِهِمْ‏)‏، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ مِنْهُمْ‏:‏ ‏{‏مُسَوِّمِينَ‏}‏ مُعَلِّمِينَ يُنْبِئُ جَمِيعُ ذَلِكَ عَنْ صِحَّةِ مَا اخْتَرْنَا مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي ذَلِكَ، وَأَنَّ التَّسْوِيمَ كَانَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ بِأَنْفُسِهَا، عَلَى نَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ فِيمَا مَضَى‏.‏

وَأَمَّا الَّذِينَ قَرَأُوا ذَلِكَ‏:‏ ‏(‏مُسَوَّمَيْنَ‏)‏، بِالْفَتْحِ، فَإِنَّهُمْ أَرَاهُمْ تَأَوَّلُوا فِي ذَلِكَ مَا‏:‏

حَدَّثَنَا بِهِ حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ غِيَاثٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ‏:‏ ‏{‏بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ عَلَيْهِمْ سِيْمَا الْقِتَالِ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏{‏بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ عَلَيْهِمْ سِيْمَا الْقِتَالِ، وَذَلِكَ يَوْمَ بَدْرٍ، أَمَدَّهُمُ اللَّهُ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ، يَقُولُ‏:‏ عَلَيْهِمْ سِيْمَا الْقِتَالِ‏.‏

فَقَالُوا‏:‏ كَانَ سِيْمَا الْقِتَالِ عَلَيْهِمْ، لَا أَنَّهُمْ كَانُوا تَسَوَّمُوا بِسِيْمَا فَيُضَافُ إِلَيْهِمِ التَّسْوِيمُ، فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قَرَأُوا‏:‏ ‏(‏مُسَوَّمِينَ‏)‏، بِمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَضَافَ التَّسْوِيمَ إِلَى مَنْ سَوَّمَهُمْ تِلْكَ السِّيْمَا‏.‏

وَ “السِّيمَا “ الْعَلَّامَةُ يُقَالُ‏:‏ ‏(‏هِيَ سِيْمَا حَسَنَةٌ، وَسِيمِيَاءُ حَسَنَةٌ‏)‏، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ‏:‏

غُـلَامٌ رَمَـاهُ اللَّـهُ بِالْحُسْـنِ يَافِعًـا *** لَـهُ سِـيمِياءُ لَا تَشُـقُّ عَـلَى الْبَصَـرْ

يَعْنِي بِذَلِكَ‏:‏ عَلَامَةٌ مِنْ حُسْنٍ، فَإِذَا أُعْلِمَ الرَّجُلُ بِعَلَّامَةٍ يُعْرَفُ بِهَا فِي حَرْبٍ أَوْ غَيْرِهِ قِيلَ‏:‏ ‏(‏سَوَّمَ نَفْسَهُ فَهُوَ يُسَوِّمُهَا تَسْوِيْمًا‏)‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏126‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ‏{‏وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِوَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَمَا جَعَلَ اللَّهُ وَعْدَهُ إِيَّاكُمْ مَا وَعَدَكُمْ مِنْ إِمْدَادِهِ إِيَّاكُمْ بِالْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ ذَكَرَ عَدَدَهُمْ ‏(‏إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ‏)‏، يَعْنِي بُشْرَى، يُبَشِّرُكُمْ بِهَا ‏(‏وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ‏)‏، يَقُولُ‏.‏ وَكَيْ تَطْمَئِنَّ بِوَعْدِهِ الَّذِي وَعَدَكُمْ مِنْ ذَلِكَ قُلُوبُكُمْ، فَتَسْكُنُ إِلَيْهِ، وَلَا تَجْزَعُ مِنْ كَثْرَةِ عَدَدِ عَدُوِّكُمْ، وَقِلَّةِ عَدَدِكُمْ ‏(‏وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ‏)‏، يَعْنِي‏:‏ وَمَا ظُفْرُكُمْ إِنْ ظَفِرْتُمْ بِعَدُوِّكُمْ إِلَّا بِعَوْنِ اللَّهِ، لَا مِنْ قِبَلِ الْمَدَدِ الَّذِي يَأْتِيكُمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ‏.‏ يَقُولُ‏:‏ فَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا، وَبِهِ فَاسْتَعِينُوا، لَا بِالْجُمُوعِ وَكَثْرَةِ الْعَدَدِ، فَإِنَّ نَصْرَكُمْ إِنْ كَانَ إِنَّمَا يَكُونُ بِاللَّهِ وَبِعَوْنِهِ وَمَعَكُمْ مِنْ مَلَائِكَتِهِ خَمْسَةُ آلَافٍ، فَإِنَّهُ إِلَى أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِعَوْنِ اللَّهِ وَبِتَقْوِيَتِهِ إِيَّاكُمْ عَلَى عَدْوِكُمْ، وَإِنْ كَانَ مَعَكُمْ مِنَ الْبَشَرِ جُمُوعٌ كَثِيرَةٌ أَحْرَى، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَاصْبِرُوا عَلَى جِهَادِ عَدُوِّكُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ نَاصِرُكُمْ عَلَيْهِمْ‏.‏ كَمَا‏:‏ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏{‏وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ إِنَّمَا جَعَلَهُمْ لِيَسْتَبْشِرُوا بِهِمْ وَلِيَطْمَئِنُّوا إِلَيْهِمْ، وَلَمْ يُقَاتِلُوا مَعَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَعْنِي يَوْمَ أُحُدٍ قَالَ مُجَاهِدٌ‏:‏ وَلَمْ يُقَاتِلُوا مَعَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ إِلَّا يَوْمَ بَدْرٍ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ‏:‏ ‏{‏وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ‏}‏، لِمَا أَعْرِفُ مِنْ ضَعْفِكُمْ، وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِي بِسُلْطَانِي وَقُدْرَتِي، وَذَلِكَ أَنَّ الْعِزَّ وَالْحُكْمَ إِلَيَّ، لَا إِلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِي‏.‏

حَدَّثَنَا يُونُسُ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ‏:‏ ‏{‏وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ‏}‏، لَوْ شَاءَ أَنْ يَنْصُرَكُمْ بِغَيْرِ الْمَلَائِكَةِ فَعَلَ “الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ “‏.‏

وَأَمَّا مَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏)‏، فَإِنَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ يَعْنِي‏:‏ ‏(‏الْعَزِيزُ‏)‏ فِي انْتِقَامِهِ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ بِهِ بِأَيْدِي أَوْلِيَائِهِ مِنْ أَهْلِ طَاعَتِهِ “الْحَكِيمُ “ فِي تَدْبِيرِهِ لَكُمْ، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، عَلَى أَعْدَائِكُمْ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِهِ‏.‏ يَقُولُ‏:‏ فَأَبْشِرُوا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، بِتَدْبِيرِي لَكُمْ عَلَى أَعْدَائِكُمْ، وَنَصْرِي إِيَّاكُمْ عَلَيْهِمْ، إِنْ أَنْتُمْ أَطَعْتُمُونِي فِيمَا أَمَرَتْكُمْ بِهِ، وَصَبَرْتُمْ لِجِهَادِ عَدُوِّي وَعَدُوِّكُمْ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏127‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ ‏{‏لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏، وَيَعْنِي بِـ ‏(‏الطَّرَفِ‏)‏، الطَّائِفَةَ وَالنَّفَرَ‏.‏

يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ، كَمَا يُهْلِكُ طَائِفَةً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَجَحَدُوا وَحْدَانِيَّةَ رَبِّهِمْ، وَنُبُوَّةَ نَبِيِّهِمْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا‏:‏ حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏، فَقَطَعَ اللَّهُ يَوْمَ بَدْرٍ طَرَفًا مِنَ الْكُفَّارِ، وَقَتَلَ صَنَادِيدَهُمْ وَرُؤَسَاءَهُمْ، وَقَادَتَهُمْ فِي الشَّرِّ‏.‏

حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، نَحْوَهُ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ، عَنْ عَبَّادٍ، عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏ الْآيَةَ كُلَّهَا، قَالَ‏:‏ هَذَا يَوْمَ بَدْرٍ، قَطَعَ اللَّهُ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ وَبَقِيَتْ طَائِفَةٌ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ‏:‏ ‏{‏لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏، أَيْ‏:‏ لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِقَتْلٍ يَنْتَقِمُ بِهِ مِنْهُمْ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا‏.‏ وَقَالَ‏:‏ إِنَّمَا عَنَى بِذَلِكَ مَنْ قُتِلَ بِأُحُدٍ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ‏:‏ ذَكَرَ اللَّهُ قَتْلَى الْمُشْرِكِينَ-يَعْنِي بِأُحُدٍ- وَكَانُوا ثَمَانِيَةَ عَشَرَ رَجُلًا فَقَالَ‏:‏ ‏{‏لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏، ثُمَّ ذَكَرَ الشُّهَدَاءَ فَقَالَ‏:‏ ‏{‏وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا‏}‏ الْآيَةَ‏.‏ ‏[‏سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 169‏]‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏أَوْ يَكْبِتَهُمْ‏)‏، فَإِنَّهُ يَعْنِي بِذَلِكَ‏:‏ أَوْ يُخْزِيهِمْ بِالْخَيْبَةِ مِمَّا رَجَوَا مِنَ الظَّفَرِ بِكُمْ‏.‏

وَقَدْ قِيلَ‏:‏ إِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏أَوْ يَكْبِتَهُمْ‏)‏، أَوْ يَصْرَعُهُمْ لِوُجُوهِهِمْ‏.‏ ذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ سَمِعَ الْعَرَبَ تَقُولُ‏:‏ ‏(‏كَبَتَهُ اللَّهُ لِوَجْهِهِ‏)‏، بِمَعْنَى صَرْعِهِ اللَّهُ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ‏:‏ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ لِيُهْلِكَ فَرِيقًا مِنَ الْكُفَّارِ بِالسَّيْفِ، أَوْ يُخْزِيَهُمْ بِخَيْبَتِهِمْ مِمَّا طَمِعُوا فِيهِ مِنَ الظُّفْرِ ‏{‏فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ فَيَرْجِعُوا عَنْكُمْ خَائِبِينَ، لَمْ يُصِيبُوا مِنْكُمْ شَيْئًا مِمَّا رَجَوَا أَنْ يَنَالُوهُ مِنْكُمْ، كَمَا‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ‏:‏ ‏{‏أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ‏}‏، أَوْ يَرُدُّهُمْ خَائِبِينَ، أَيْ‏:‏ يَرْجِعُ مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ فَلًّا خَائِبِينَ، لَمْ يَنَالُوا شَيْئًا مِمَّا كَانُوا يَأْمُلُونَ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏أَوْ يَكْبِتَهُمْ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ يُخْزِيهِمْ، “فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ “‏.‏

حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، مِثْلَهُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏128‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِذَلِكَ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا، أَوْ يَكْبِتُهُمْ، أَوْ يَتُوبُ عَلَيْهِمْ، أَوْ يُعَذِّبُهُمْ، فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ، لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ‏.‏

فَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏أَوْ يَتُوبُ عَلَيْهِمْ‏}‏، مَنْصُوبٌ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَوْ يَكْبِتَهُمْ‏}‏‏.‏

وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَأْوِيلُهُ‏:‏ لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ، حَتَّى يَتُوبَ عَلَيْهِمْ فَيَكُونُ نَصْبُ “يَتُوبَ “ بِمَعْنَى “أَوْ “ الَّتِي هِيَ فِي مَعْنَى “حَتَّى “‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى بِالصَّوَابِ، لِأَنَّهُ لَا شَيْءَ مِنْ أَمْرِ الْخَلْقِ إِلَى أَحَدٍ سِوَى خَالِقِهِمْ، قَبْلَ تَوْبَةِ الْكُفَّارِ وَعِقَابِهِمْ وَبَعْدَ ذَلِكَ‏.‏

وَتَأْوِيلُ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ‏}‏، لَيْسَ إِلَيْكَ، يَا مُحَمَّدُ، مِنْ أَمْرِ خَلْقِي إِلَّا أَنْ تُنَفِّذَ فِيهِمْ أَمْرِي، وَتَنْتَهِيَ فِيهِمْ إِلَى طَاعَتِي، وَإِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَيَّ وَالْقَضَاءُ فِيهِمْ بِيَدِي دُونَ غَيْرِي، أَقَضَى فِيهِمْ وَأَحْكُمُ بِالَّذِي أَشَاءُ، مِنَ التَّوْبَةِ عَلَى مَنْ كَفَرَ بِي وَعَصَانِي وَخَالَفَ أَمْرِي، أَوِ الْعَذَابُ إِمَّا فِي عَاجِلِ الدُّنْيَا بِالْقَتْلِ وَالنِّقَمِ الْمُبِيرَةِ، وَإِمَّا فِي آجِلِ الْآخِرَةِ بِمَا أَعْدَدْتُ لِأَهْلِ الْكُفْرِ بِي‏.‏ كَمَا‏:‏

حَدَّثَنِي ابْنُ حُمَيدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ‏:‏ ثُمَّ قَالَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏{‏لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ‏}‏، أَيْ‏:‏ لَيْسَ لَكَ مِنَ الْحُكْمِ شَيْءٌ فِي عِبَادِي، إِلَّا مَا أَمَرَتْكَ بِهِ فِيهِمْ، أَوْ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ بِرَحْمَتِي، فَإِنْ شِئْتُ فَعَلْتُ، أَوْ أُعَذِّبُهُمْ بِذُنُوبِهِمْ ‏{‏فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ‏}‏، أَيْ قَدِ اسْتَحَقُّوا ذَلِكَ بِمَعْصِيَتِهِمْ إِيَّايَ‏.‏

وَذَكَرَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِنَّمَا أَنْـزَلَ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّهُ لَمَّا أَصَابَهُ بِأُحُدٍ مَا أَصَابَهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، قَالَ‏:‏ كَالْآيِسِ لَهُمْ مِنَ الْهُدَى أَوْ مِنَ الْإِنَابَةِ إِلَى الْحَقِّ‏:‏ كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ فَعَلُوا هَذَا بِنَبِيِّهِمْ‏!‏‏!‏

ذِكْرُ الرِّوَايَةِ بِذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا حُمَيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا حُمَيدُ قَالَ‏:‏ قَالَ أَنَسٌ‏:‏ ‏(‏قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَّتُهُ، وَشُجَّ، فَجَعَلَ يَمْسَحُ عَنْ وَجْهِهِ الدَّمَ وَيَقُولُ‏:‏ كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ خَضَّبُوا نَبِيَّهُمْ بِالدَّمِ وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ‏!‏‏!‏ فَأُنْـزِلَتْ‏:‏ ‏{‏لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ‏}‏‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُدَيٍّ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ‏.‏

حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ‏.‏

حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ طَلْحَةَ الْيَرْبُوعِيُّ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ شُجَّ فِي جَبْهَتِهِ وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَّتُهُ‏:‏ ‏(‏لَا يُفْلِحُ قَوْمٌ صَنَعُوا هَذَا بِنَبِيِّهِمْ‏!‏ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ‏:‏ ‏{‏لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ‏}‏‏.‏

حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، عَنِ ابْنِ عُلَيَّةَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ، عَنِ الْحَسَنِ‏:‏ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمُ أُحُدٍ‏:‏ ‏(‏كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ دَمَّوا وَجْهَ نَبِيِّهِمْ وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ‏!‏‏!‏ فَنَـزَلَتْ‏:‏ ‏{‏لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ‏}‏‏.‏

حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نَحْوَ ذَلِكَ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ‏}‏، ذَكَرَ لَنَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أُنـْزِلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَقَدْ جُرِحَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَجْهِهِ وَأُصِيبَ بَعْضُ رَبَاعِيَّتِهِ، فَقَالَ وَسَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ يَغْسِلُ عَنْ وَجْهِهِ الدَّمَ‏:‏ ‏(‏كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ خَضَّبُوا وَجْهَ نَبِيِّهِمْ بِالدَّمِ وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ‏!‏ فَأَنْـزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏{‏لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ‏}‏‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ وَاقَدٍ، عَنْ مَطَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ‏:‏ أُصِيبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ وكُسِرَتْ رَبَاعِيَّتُهُ، وَفُرِقَ حَاجِبُهُ، فَوَقَعَ وَعَلَيْهِ دِرْعَانِ، وَالدَّمُ يَسِيلُ، فَمَرَّ بِهِ سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، فَأَجْلَسَهُ وَمَسَحَ عَنْ وَجْهِهِ فَأَفَاقَ وَهُوَ يَقُولُ‏:‏ ‏(‏كَيْفَ بِقَوْمٍ فَعَلُوا هَذَا بِنَبِيِّهِمْ وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ‏!‏ فَأَنْـزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى‏:‏ ‏{‏لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ‏}‏‏.‏

حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ‏}‏ الْآيَةَ قَالَ قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ‏:‏ أُنـْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَقَدْ شُجَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَجْهِهِ وَأُصِيبَتْ رَبَاعِيَّتُهُ، فَهَمَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَدْعُوَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ‏:‏ كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ أَدْمَوْا وَجْهَ نَبِيِّهِمْ وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ وَهُمْ يَدْعُونَهُ إِلَى الشَّيْطَانِ، وَيَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى وَيَدْعُونَهُ إِلَى الضَّلَالَةِ، وَيَدْعُوهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ وَيَدْعُونَهُ إِلَى النَّارِ‏!‏ فَهَمَّ أَنْ يَدْعُوَ عَلَيْهِمْ، فَأَنْـزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏{‏لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ‏}‏، فَكَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الدُّعَاءِ عَلَيْهِمْ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبَّادُ، عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ‏}‏ الْآيَةَ كُلَّهَا، فَقَالَ‏:‏ جَاءَ أَبُو سُفْيَانَ مِنَ الْحَوْلِ غَضْبَانُ لِمَا صُنِعَ بِأَصْحَابِهِ يَوْمَ بَدْرٍ، فَقَاتَلَ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ قِتَالًا شَدِيدًا، حَتَّى قَتَلَ مِنْهُمْ بِعَدَدِ الْأَسَارَى يَوْمَ بَدْرٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلِمَةً عِلِمَ اللَّهُ أَنَّهَا قَدْ خَالَطَتْ غَضَبًا‏:‏ ‏(‏كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ خَضَّبُوا وَجْهَ نَبِيِّهِمْ بِالدَّمِ وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ‏!‏ فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏{‏لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ‏}‏‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ أَنَّ رَبَاعِيَّةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُصِيبَتْ يَوْمَ أُحُدٍ، أَصَابَهَا عَتَبَةُ بْنُ أَبِي وَقَاصٍّ، وَشَجَّهُ فِي وَجْهِهِ‏.‏ وَكَانَ سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ يَغْسِلُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدَّمَ، وَالنَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ‏:‏ ‏(‏كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ صَنَعُوا بِنَبِيِّهِمْ هَذَا‏!‏‏!‏ فَأَنْـزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏{‏لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ‏}‏‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَعَنْ عُثْمَانَ الْجُزُرِيِّ، عَنْ مَقْسِمٍ‏:‏ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا عَلَى عَتَبَةَ بْنِ أَبِي وَقَاصٍّ يَوْمَ أُحُدٍ، حِينَ كَسَرَ رَبَاعِيَّتَهُ، وَوَثَأَ وَجْهَهُ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ لَا يَحُلْ عَلَيْهِ الْحَوْلُ حَتَّى يَمُوتَ كَافِرًا‏!‏ “ قَالَ‏:‏ فَمَا حَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ حَتَّى مَاتَ كَافِرًا‏)‏‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيجٍ قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ شَجَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي فَرْقِ حَاجِبِهِ، وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَّتُهُ‏.‏

قَالَ ابْنُ جُرَيجٍ‏:‏ ذَكَرَ لَنَا أَنَّهُ لَمَّا جُرِحَ، جَعَلَ سَالِمُ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ يَغْسِلُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ‏:‏ ‏(‏كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ خَضَّبُوا وَجْهَ نَبِيِّهِمْ بِالدَّمِ وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ‏.‏ فَأَنْـزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏{‏لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ‏}‏‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ نَـزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّهُ دَعَا عَلَى قَوْمٍ، فَأَنْـزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ لَيْسَ الْأَمْرُ إِلَيْكَ فِيهِمْ‏.‏

ذِكْرُ الرِّوَايَةِ بِذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ حَبِيبِ بْنِ عَرَبِيِّ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِجْلَانِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ‏:‏ ‏(‏أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ يَدْعُو عَلَى أَرْبَعَةِ نَفَرٍ، فَأَنْـزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏{‏لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ‏}‏ قَالَ‏:‏ وَهَدَاهُمُ اللَّهُ لِلْإِسْلَامِ‏)‏‏.‏

حَدَّثَنِي أَبُو السَّائِبِ سَلْمُ بْنُ جُنَادَةَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ بَشِيرٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ حَمْزَةَ، عَنْ سَالِمِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ‏:‏ ‏(‏قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ اللَّهُمَّ الْعَنْ أَبَا سُفْيَانَ‏!‏ اللَّهُمَّ الْعَنِ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ‏!‏ اللَّهُمَّ الْعَنْ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ‏!‏ فَنَـزَلَتْ‏:‏ ‏{‏لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ‏}‏‏.‏

حَدَّثَنَا مُجَاهِدُ بْنُ مُوسَى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَيَّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ قَالَ‏:‏ ‏(‏صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْفَجْرَ، فَلَمَّا رَفَعَ رَأْسُهُ مِنَ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ قَالَ اللَّهُمَّ أَنْجِ عَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ وَسَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ وَالْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ‏!‏ اللَّهُمَّ أَنْجِ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ‏!‏ اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطَأَتَكَ عَلَى مُضَرَ ‏!‏ اللَّهُمَّ سِنِينَ كَسِنِينَ آلِ يُوسُفَ ‏!‏ فَأَنْـزَلَ اللَّهُ‏:‏ ‏{‏لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ‏}‏‏.‏ الْآيَةَ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنِي يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَهُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ‏:‏ أَنَّهُمَا سَمِعَا أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ‏:‏ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ حِينَ يَفْرَغُ، فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ، مِنَ الْقِرَاءَةِ وَيَكْبُرُ وَيَرْفَعُ رَأْسَهُ‏:‏ ‏(‏سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ “ ثُمَّ يَقُولُ وَهُوَ قَائِمٌ‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ وَسَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ وَعِيَاشَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ‏!‏ اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطَأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ كَسِنِيِّ يُوسُفَ‏!‏ اللَّهُمَّ الْعَنْ لَحْيَانَ وَرَعْلًا وَذِكْوَانَ وَعُصِيَّةَ عَصَتِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ‏!‏“‏.‏ ثُمَّ بَلَغَنَا أَنَّهُ تَرَكَ ذَلِكَ لَمَّا نَـزَلَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏129‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِذَلِكَ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ لَيْسَ لَكَ يَا مُحَمَّدُ، مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ، وَلِلَّهِ جَمِيعُ مَا بَيْنَ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنْ مَشْرِقِ الشَّمْسِ إِلَى مَغْرِبِهَا، دُونَكَ وَدُونَهُمْ، يَحْكُمُ فِيهِمْ بِمَا يَشَاءُ، وَيَقْضِي فِيهِمْ مَا أَحَبَّ، فَيَتُوبُ عَلَى مَنْ أَحَبَّ مِنْ خَلْقِهِ الْعَاصِينَ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ، ثُمَّ يَغْفِرُ لَهُ، وَيُعَاقِبُ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ عَلَى جِرْمِهِ فَيَنْتَقِمُ مِنْهُ، وَهُوَ الْغَفُورُ الَّذِي يَسْتُرُ ذُنُوبَ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَسْتُرَ عَلَيْهِ ذُنُوبَهُ مِنْ خَلْقِهِ بِفَضْلِهِ عَلَيْهِمْ بِالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ، وَالرَّحِيمُ بِهِمْ فِي تَرْكِهِ عُقُوبَتَهُمْ عَاجِلًا عَلَى عَظِيمِ مَا يَأْتُونَ مِنَ الْمَآثِمِ‏.‏ كَمَا‏:‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ‏:‏ ‏(‏وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏)‏، أَيْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ، وَيَرْحَمُ الْعِبَادَ، عَلَى مَا فِيهِمْ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏130‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا فِي إِسْلَامِكُمْ بَعْدَ إِذْ هَدَاكُمْ لَهُ، كَمَا كُنْتُمْ تَأْكُلُونَهُ فِي جَاهِلِيَّتِكُمْ‏.‏

وَكَانَ أَكْلُهُمْ ذَلِكَ فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ‏:‏ أَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ كَانَ يَكُونُ لَهُ عَلَى الرَّجُلِ مَالٌ إِلَى أَجَلٍ، فَإِذَا حَلَّ الْأَجَلُ طَلَبَهُ مِنْ صَاحِبِهِ، فَيَقُولُ لَهُ الَّذِي عَلَيْهِ الْمَالُ‏:‏ أَخِّرْ عَنَى دَيْنَكَ وَأَزِيدُكَ عَلَى مَالِكَ‏.‏ فَيَفْعَلَانِ ذَلِكَ‏.‏ فَذَلِكَ هُوَ ‏{‏لرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً‏}‏، فَنَهَاهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي إِسْلَامِهِمْ عَنْهُ، ‏.‏

كَمَا‏:‏ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا مُؤَمِّلٌ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ جُرَيجٍ، عَنْ عَطَاءٍ قَالَ‏:‏ كَانَتْ ثَقِيفٌ تَدَّاينُ فِي بَنِي الْمُغِيرَةِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَإِذَا حَلَّ الْأَجَلُ قَالُوا‏:‏ نَـزِيدُكُمْ وَتُؤَخِّرُونَ‏؟‏ فَنَـزَلَتْ‏:‏ ‏{‏لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً‏}‏‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً‏}‏، أَيْ‏:‏ لَا تَأْكُلُوا فِي الْإِسْلَامِ إِذْ هَدَاكُمُ اللَّهُ لَهُ، مَا كُنْتُمْ تَأْكُلُونَ إِذْ أَنْتُمْ عَلَى غَيْرِهِ، مِمَّا لَا يَحِلُّ لَكُمْ فِي دِينِكُمْ‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً‏}‏ قَالَ‏:‏ رِبَا الْجَاهِلِيَّةِ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ ابْنُ زَيْدٍ يَقُولُ فِيقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً‏}‏، قَالَ‏:‏ كَانَ أَبِي يَقُولُ‏:‏ إِنَّمَا كَانَالرِّبَا فِي الْجَاهِلِيَّةِفِي التَّضْعِيفِ وَفِي السِّنِّ‏.‏ يَكُونُ لِلرَّجُلِ فَضْلُ دِينٍ، فَيَأْتِيهِ إِذَا حَلَّ الْأَجَلُ فَيَقُولُ لَهُ‏:‏ تَقْضِينِي أَوْ تَزِيدُنِي‏؟‏ فَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ شَيْءٌ يَقْضِيهِ قَضَى، وَإِلَّا حَوَّلَهُ إِلَى السِّنِّ الَّتِي فَوْقَ ذَلِكَ إِنْ كَانَتِ ابْنَةُ مَخَاضٍ يَجْعَلُهَا ابْنَةَ لِبَوْنٍ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ، ثُمَّ حِقَّةٍ، ثُمَّ جَذَعَةٍ، ثُمَّ رَبَاعِيًا، ثُمَّ هَكَذَا إِلَى فَوْقَ وَفِي الْعَيْنِ يَأْتِيهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ أَضْعَفَهُ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ أَضْعَفَهُ أَيْضًا، فَتَكُونُ مِئَةً فَيَجْعَلُهَا إِلَى قَابِلِ مِئَتَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ جَعْلَهَا أَرْبَعَمِائَةَ، يُضَعِفُهَا لَهُ كُلَّ سَنَةٍ أَوْ يَقْضِيهِ‏.‏ قَالَ‏:‏ فَهَذَا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً‏}‏‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَاتَّقَوُا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَفْلَحُونَ‏}‏، فَإِنَّهُ يَعْنِي‏:‏ وَاتَّقَوُا اللَّهَ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، فِي أَمْرِ الرِّبَا فَلَا تَأْكُلُوهُ، وَفِي غَيْرِهِ مِمَّا أَمَرَكُمْ بِهِ أَوْ نَهَاكُمْ عَنْهُ، وَأَطِيعُوهُ فِيهِ ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَفْلَحُونَ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ لِتَنْجَحُوا فَتَنْجُوا مِنْ عِقَابِهِ، وَتُدْرِكُوا مَا رَغَّبَكُمْ فِيهِ مِنْ ثَوَابِهِ وَالْخُلُودِ فِي جَنَانِهِ، كَمَا‏:‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ‏:‏ ‏{‏وَاتَّقَوُا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَفْلَحُونَ‏}‏، أَيْ‏:‏ فَأَطِيعُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ أَنْ تَنْجُوا مِمَّا حَذَّرَكُمْ مِنْ عَذَابِهِ، وَتُدْرِكُوا مَا رَغَّبَكُمْ فِيهِ مِنْ ثَوَابِهِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏131‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ‏:‏ وَاتَّقَوْا، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، النَّارَ أَنْ تُصْلَوْهَا بِأَكْلِكُمُ الرِّبَا بَعْدَ نَهْيِي إِيَّاكُمْ عَنْهُ الَّتِي أَعْدَدْتُهَا لِمَنْ كَفَرَ بِي، فَتُدْخِلُوا مَدْخَلَهُمْ بَعْدَ إِيْمَانِكُمْ بِي، بِخِلَافِكُمْ أَمْرِي، وَتَرْكِكُمْ طَاعَتِي‏.‏ كَمَا‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ‏:‏ ‏{‏وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ‏}‏، الَّتِي جُعِلَتْ دَارًا لِمَنْ كَفَرَ بِي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏132‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ ‏{‏وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ وَأَطِيعُوا اللَّهَ، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، فِيمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ مِنْ أَكْلِ الرِّبَا وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَشْيَاءِ، وَفِيمَا أَمَرَكُمْ بِهِ الرَّسُولَ‏.‏ يَقُولُ‏:‏ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ أَيْضًا كَذَلِكَ “لَعَلَّكُمْ تَرْحَمُونَ‏)‏، يَقُولُ‏:‏ لِتَرْحَمُوا فَلَا تُعَذِّبُوا‏.‏

وَقَدْ قِيلَ إِنَّ ذَلِكَ مُعَاتَبَةً مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ خَالَفُوا أَمْرَهُ يَوْمَ أُحُدٍ، فَأَخَلُّوا بِمَرَاكِزِهِمِ الَّتِي أُمِرُوا بِالثَّبَاتِ عَلَيْهَا‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ‏:‏ ‏{‏وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تَرْحَمُونَ‏}‏، مُعَاتَبَةً لِلَّذِينِ عَصَوْا رَسُولَهُ حِينَ أَمَرَهُمْ بِالَّذِي أَمَرَهُمْ بِهِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَفِي غَيْرِهِ- يَعْنِي‏:‏ فِي يَوْمِ أُحُدٍ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏133‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُأُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ‏}‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَسَارَعُوا‏}‏، وَبَادَرُوا وَسَابَقُوا ‏{‏إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ‏}‏، يَعْنِي‏:‏ إِلَى مَا يَسْتُرُ عَلَيْكُمْ ذُنُوبَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ، وَمَا يُغَطِّيهَا عَلَيْكُمْ مِنْ عَفْوِهِ عَنْ عُقُوبَتِكُمْ عَلَيْهَا ‏{‏وَجَنَّةٌ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ‏}‏، يَعْنِي‏:‏ وَسَارَعُوا أَيْضًا إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ‏.‏

ذُكِرَ أَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ وَجَنَّةٌ عَرَّضَهَا كَعَرْضِ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَالْأَرْضِينَ السَّبْعِ، إِذَا ضُمَّ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏{‏وَجَنَّةٌ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ‏}‏، قَالَ‏:‏ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ تُقْرَنُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُونَ السَّبْعُ، كَمَا تُقْرَنُ الثِّيَابُ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، فَذَاكَعَرْضُ الْجَنَّةِ‏.‏

وَإِنَّمَا قِيلَ‏:‏ ‏{‏وَجَنَّةٌ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ‏}‏، فَوَصَفَ عَرْضَهَا بِالسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِينَ، وَالْمَعْنَى مَا وَصَفْنَا‏:‏ مَنْ وَصْفِ عَرْضِهَا بِعَرْضِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، تَشْبِيهًا بِهِ فِي السِّعَةِ وَالْعِظَمِ، كَمَا قِيلَ‏:‏ ‏{‏مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ لُقْمَانَ‏:‏ 28‏]‏، يَعْنِي‏:‏ إِلَّا كَبَعْثِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَكَمَا قَالَ الشَّاعِرُ‏:‏

كَـأَنَّ عَذِيْـرَهُمْ بِجَـنُوبِ سِـلَّى *** نَعَـامٌ قَـاقَ فِـي بَلَـدٍ قِفَـارِ

أَيْ‏:‏ عَذِيرُ نَعَامٍ، وَكَمَا قَالَ الْآخَرُ‏:‏

حَسِـبْتَ بُغَـامَ رَاحِـلَتِي عَنَاقًـا‏!‏ *** وَمَـا هِـي، وَيْـبَ غَـيْرِكَ بِالْعَنَـاقِ

يُرِيدُ صَوْتَ عَنَاقٍ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَقَدْ ذُكِرَ ‏(‏أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ فَقِيلَ لَهُ‏:‏ هَذِهِ الْجَنَّةُ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، فَأَيْنَ النَّارُ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ هَذَا النَّهَارُ إِذَا جَاءَ، أَيْنَ اللَّيْل‏)‏‏.‏

ذِكْرُ الْأَخْبَارِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِهِ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنِي مُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ خَثِيمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي رَاشِدٍ، عَنْ يُعْلَى بْنِ مُرَّةَ قَالَ‏:‏ لَقِيْتُ التَّنُوخِيَّ رَسُولَ هِرَقْلَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحِمْصٍ، شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ فُنِّدَ‏.‏ قَالَ‏:‏ قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكِتَابِ هِرَقْلَ، فَنَاوَلَ الصَّحِيفَةَ رَجُلًا عَنْ يَسَارِهِ‏.‏ قَالَ قُلْتُ‏:‏ مَنْ صَاحِبُكُمُ الَّذِي يَقْرَأُ‏؟‏ قَالُوا‏:‏ مُعَاوِيَةُ‏.‏ فَإِذَا كِتَابُ صَاحِبِي‏:‏ ‏(‏إِنَّكَ كَتَبْتَ تَدْعُونِي إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ، فَأَيْنَ النَّارُ‏؟‏ “ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ سُبْحَانَ اللَّهِ‏!‏ فَأَيْنَ اللَّيْلُ إِذَا جَاءَ النَّهَارُ‏؟‏‏)‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيِّ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ‏:‏ أَنَّ نَاسًا مِنَ الْيَهُودِ سَأَلُوا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ عَنْ جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، أَيْنَ النَّارُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ أَرَأَيْتُمْ إِذَا جَاءَ اللَّيْلُ، أَيْنَ يَكُونُ النَّهَارُ‏؟‏ “فَقَالُوا‏:‏ اللَّهُمَّ نَـزَعْتَ بِمِثْلِهِ مِنَ التَّوْرَاةِ ‏!‏‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ‏:‏ أَنْ عُمَرَ أَتَاهُ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ، فَسَأَلُوهُ وَعِنْدَهُ أَصْحَابُهُ فَقَالُوا‏:‏ أَرَأَيْتَ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ‏}‏، فَأَيْنَ النَّارُ‏؟‏ فَأَحْجَمَ النَّاسُ، فَقَالَ عُمَرُ‏:‏ ‏(‏أَرَأَيْتُمْ إِذَا جَاءَ اللَّيْلُ، أَيْنَ يَكُونُ النَّهَارُ‏؟‏ وَإِذَا جَاءَ النَّهَارُ، أَيْنَ يَكُونُ اللَّيْلُ‏؟‏‏)‏ فَقَالُوا‏:‏ نَـزَعْتَ مِثْلَهَا مِنَ التَّوْرَاةِ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُمَرَ بِنَحْوِهِ، فِي الثَّلَاثَةِ الرَّهْطِ الَّذِينَ أَتَوْا عُمَرَ فَسَأَلُوهُ‏:‏ عَنْ جَنَّةٍ عَرَضَهَا كَعَرْضِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، بِمِثْلِ حَدِيثِ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ‏.‏

حَدَّثَنَا مُجَاهِدُ بْنُ مُوسَى قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ‏:‏ جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ إِلَى عُمَرَ فَقَالَ‏:‏ تَقُولُونَ‏:‏ ‏(‏جَنَّةٌ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ‏)‏، أَيْنَ تَكُونُ النَّارُ‏؟‏ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ‏:‏ أَرَأَيْتَ النَّهَارَ إِذَا جَاءَ أَيْنَ يَكُونُ اللَّيْلُ‏؟‏ أَرَأَيْتَ اللَّيْلَ إِذَا جَاءَ، أَيْنَ يَكُونُ النَّهَارُ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ إِنَّهُ لَمِثْلُهَا فِي التَّوْرَاةِ، فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ‏:‏ لِمَ أَخْبَرْتَهُ‏؟‏ فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ‏:‏ دَعْهُ، إِنَّهُ بِكُلٍّ مُوقِنٌ‏.‏

حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ حَازِمٍ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا أَبُو نُعَيمٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ بُرِقَانَ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ الْأَصَمُّ‏:‏ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَتَى ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ‏:‏ تَقُولُونَ ‏(‏جَنَّةٌ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ‏)‏، فَأَيْنَ النَّارُ‏؟‏ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ أَرَأَيْتَ اللَّيْلَ إِذَا جَاءَ، أَيْنَ يَكُونُ النَّهَارُ‏؟‏ وَإِذَا جَاءَ النَّهَارُ، أَيْنَ يَكُونُ اللَّيْلُ‏؟‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ‏)‏ فَإِنَّهُ يَعْنِي‏:‏ إِنَّ الْجَنَّةَ الَّتِي عَرْضُهَا كَعَرَضِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِينَ السَّبْعِ، أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ اتَّقَوُا اللَّهَ فَأَطَاعُوهُ فِيمَا أَمَرَهُمْ وَنَهَاهُمْ، فَلَمْ يَتَعَدَّوْا حُدُودَهُ، وَلَمْ يُقَصِّرُوا فِي وَاجِبِ حَقِّهِ عَلَيْهِمْ فَيُضَيِّعُوهُ‏.‏

كَمَا‏:‏ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ‏:‏ ‏{‏وَسَارَعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ‏}‏، أَيْ‏:‏ دَارًا لِمَنْ أَطَاعَنِي وَأَطَاعَ رَسُولِي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏134‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ‏{‏الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ‏}‏، أُعِدْتِ الْجَنَّةُ الَّتِي عَرَّضَهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ لِلْمُتَّقِينَ، وَهُمُ الْمُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِمَّا فِي صَرْفِهِ عَلَى مُحْتَاجٍ، وَإِمَّا فِي تَقْوِيَةِ مُضْعِفٍ عَلَى النُّهُوضِ لِجِهَادِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏فِي السَّرَّاءِ‏)‏، فَإِنَّهُ يَعْنِي‏:‏ فِي حَالِ السُّرُورِ، بِكَثْرَةِ الْمَالِ وَرَخَاءِ الْعَيْشِ “وَالسَّرَّاءِ “ مَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِهِمْ “سَرَّنِي هَذَا الْأَمْرُ مَسَرَّةً وَسُرُورًا “

“وَالضَّرَّاءَ “ مَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِهِمْ‏:‏ ‏(‏قَدْ ضُرَّ فُلَانٌ فَهُوَ يُضَرُّ‏)‏، إِذَا أَصَابَهُ الضُّرُّ، وَذَلِكَ إِذَا أَصَابَهُ الضِّيقُ، وَالْجُهْدُ فِي عَيْشِهِ‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ‏.‏

فَأَخْبَرَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّ الْجَنَّةَ الَّتِي وَصَفَ صِفَتَهَا، لِمَنِ اتَّقَاهُ وَأَنْفَقَ مَالَهُ فِي حَالِ الرَّخَاءِ وَالسِّعَةِ، وَفِي حَالِ الضِّيقِ وَالشِّدَّةِ، فِي سَبِيلِهِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ‏)‏، يَعْنِي‏:‏ وَالْجَارِعِينَ الْغَيْظَ عِنْدَ امْتِلَاءِ نُفُوسِهِمْ مِنْهُ‏.‏

يُقَالُ مِنْهُ‏:‏ ‏(‏كَظَمَ فُلَانَ غَيْظَهُ‏)‏، إِذَا تَجَرَّعَهُ، فَحَفِظَ نَفْسَهُ مِنْ أَنْ تَمْضِيَ مَا هِيَ قَادِرَةٌ عَلَى إِمْضَائِهِ، بِاسْتِمْكَانِهَا مِمَّنْ غَاظَهَا، وَانْتِصَارِهَا مِمَّنْ ظَلَمَهَا‏.‏

وَأَصْلُ ذَلِكَ مِنْ “كَظْمِ الْقِرْبَةِ‏)‏، يُقَالُ مِنْهُ‏:‏ ‏(‏كَظَمْتُ الْقِرْبَةَ‏)‏، إِذَا مَلَأَتْهَا مَاءً‏.‏ وَ‏(‏فُلَانٌ كَظِيمٌ وَمَكْظُومٌ‏)‏، إِذَا كَانَ مُمْتَلِئًا غَمٌّا وَحُزْنًا‏.‏ وَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، ‏{‏وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ يُوسُفَ‏:‏ 84‏]‏ يَعْنِي‏:‏ مُمْتَلِئٌ مِنَ الْحُزْنِ‏.‏ وَمِنْهُ قِيلٌ لِمَجَارِي الْمِيَاهِ‏:‏ ‏(‏الْكَظَائِمُ‏)‏، لِامْتِلَائِهَا بِالْمَاءِ‏.‏ وَمِنْهُ قِيلَ‏:‏ ‏(‏أَخَذَتْ بِكَظَمِهِ‏)‏ يَعْنِي‏:‏ بِمَجَارِي نَفْسِهِ‏.‏

وَ “الْغَيْظُ “ مَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ‏:‏ ‏(‏غَاظَنِي فُلَانَ فَهُوَ يَغِيظُنِي غَيْظًا‏)‏، وَذَلِكَ إِذَا أَحْفَظُهُ وَأُغْضِبُهُ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ‏}‏، فَإِنَّهُ يَعْنِي‏:‏ وَالصَّافِحِينَ عَنِ النَّاسِ عُقُوبَةَ ذُنُوبِهِمْ إِلَيْهِمْ وَهُمْ عَلَى الِانْتِقَامِ مِنْهُمْ قَادِرُونَ، فَتَارِكُوهَا لَهُمْ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ‏}‏، فَإِنَّهُ يَعْنِي‏:‏ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ مِنْ عَمَلِ بِهَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي وَصَفَ أَنَّهُ أَعَدَّ لِلْعَامِلِينَ بِهَا الْجَنَّةَ الَّتِي عَرْضُهَا السَّمَاوَات وَالْأَرْضُ، وَالْعَامِلُونَ بِهَا هُمْ ‏(‏احْسِنُونَ‏)‏، وَإِحْسَانُهُمْ، هُوَ عَمَلُهُمْ بِهَا، ‏.‏ كَمَا‏:‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ‏}‏ الْآيَةَ‏:‏ ‏{‏وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ‏}‏، أَيْ‏:‏ وَذَلِكَ الْإِحْسَانُ، وَأَنَا أَحَبُّ مِنْ عَمَلٍ بِهِ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ‏}‏، قَوْمٌ أَنْفَقُوا فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ، وَالْجُهْدِ وَالرَّخَاءِ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَغْلِبَ الشَّرُّ بِالْخَيْرِ فَلْيَفْعَلْ، وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ‏.‏ فَنِعْمَتُ وَاللَّهُ يَا ابْنَ آدَمَ، الْجُرْعَةُ تَجْتَرِعُهُا مِنْ صَبْرٍ وَأَنْتَ مَغِيظٌ، وَأَنْتَ مَظْلُومٌ‏.‏

حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا مُحْرِزُ أَبُو رَجَاءٍ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ‏:‏ يُقَالُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏:‏ لِيُقِمْ مَنْ كَانَ لَهُ عَلَى اللَّهِ أَجْرٌ‏.‏ فَمَا يَقُومُ إِلَّا إِنْسَانٌ عَفَا، ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ‏:‏ ‏{‏وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ‏}‏‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ‏:‏ أَخْبَرَنَا دَاوُدُ بْنُ قَيْسٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ يُقَالُ لَهُ عَبْدُ الْجَلِيلِ، عَنْ عَمٍّ لَهُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِيقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ‏}‏‏:‏ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏ ‏(‏مِنْ كَظْمَ غَيْظًا وَهُوَ يُقَدِّرُ عَلَى إِنْفَاذِهِ، مَلَأَهُ اللَّهُ أَمْنًا وَإِيمَانًا‏)‏‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ‏:‏ حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ‏}‏ إِلَى ‏{‏وَاللَّهِ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ‏}‏، فـَ ‏{‏وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ‏}‏ كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الشُّورَى‏:‏ 37‏]‏، يَغْضَبُونَ فِي الْأَمْرِ لَوْ وَقَعُوا بِهِ كَانَ حَرَامًا، فَيَغْفِرُونَ وَيُعْفُونَ، يَلْتَمِسُونَ بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ “وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ “ كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ‏}‏ إِلَى ‏{‏أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ النُّورِ‏:‏ 22‏]‏، يَقُولُ‏:‏ لَا تُقَسِّمُوا عَلَى أَنْ لَا تُعْطُوهُمْ مِنَ النَّفَقَةِ شَيْئًا وَاعْفُوا وَاصْفَحُوا‏.‏